IMLebanon

جمهورية متحف الشمع

عندما تُبْلى دولة «الرجل المريض» بفقدان المناعة، تنتفخ فيها الأورام، وتتفشىّ الأمراض وتنتشر، ولأن جسد الدولة مصابٌ منذ الولادة بعاهة الحساسية العربية، فإنك كلما داويت جرحاً فيه سالَ جرحُ.

بعد آفة الخطف والخطف المضاد، هذا الموروث الرهيب الذي نقلته إلينا الحضارة العربية مع حرب 1975، تطلّ اليوم ظاهرة أخرى من السلالة نفسها متمثِّلةً بقطع الطرق بالإطارات المشتعلة، ومدفوعة باحتشاد صاخب بالتهويل والتهديد.

هذه الظاهرة في لبنان، البلد الديمقراطي العربي الوحيد، أصبحت هي الوسيلة الديمقراطية الرائجة للإعتراض على البشر، أو على الدولة، أو حتىَّ على رحمة الله، هكذا لسبب أو لغير سبب، المهمّ أن يفرِّج المعترضون عما يجيش في النفس من تشنّج وغضب.

نحن نتفهّم بعميق المشاعر وجع الذين يلمُّ بهم مصاب أو حدَث أليم، ولكننا نهيب بهم أن يحسنوا اختيار وسيلة التعبير التي مثلما هي تستقطب التعاطف والتأثير، فإنها تسبب أيضاً التأفُّف والتنفير.

الذين يقفلون الطرق احتجاجاً على خطف أبرياء أو احتجازهم، فإنما هم يحتجزون بدورهم آلاف الأبرياء رهائن ملهوفة على الطرق، ويضغطون على أعصابهم المرهفة، ويراكمون على أنفاسهم الإختناق في دولة تتلاعب الأشباح الرسمية في قصورها كرقصة الأرواح الشريرة.

إن هذا النوع الإنتقامي من عابري الطرق لا يشكل على فظاظته الوسيلة الناجعة لجعل الجسم السلطوي المخدَّر يشعر بوَخْزِ الإبَر، ما دام أنه لا يستشعر وخْزَ الضمير، وإلاّ، فهل هناك جسم حكومي يختلج فيه دم الحياة، وهو يقف كالصنم في متحف الشمع أمام متظاهرين يقفلون بالأغلال أبواب أهمّ مؤسسة حيوية لإغراق البلاد في سراديب الظلام؟

هل كان لقطع الطرق وإقفال أبواب المؤسسات أنْ فتَحَ الله في وجه أصحاب الحقوق، وأصحاب الرتب والرواتب، أوْ أدّى ذلك الى فتْح أعين السلطة التي بلاها الله بالعمى، أو الى فتْح الأيدي المكبّلة بسلاسل الحديد؟

عندما تصبح الدولة هيكلاً موشّى بخيوط العنكبوت، والجمهورية أرملة بلا رجل، والنواب أجسام محنّطة في أهرامات المجلس، والحكومة غانية مولودة بالحرام، فقد يصبح الشعب هو الدولة، وهو الجمهورية وسلطة التنفيذ.

الشعب أرقى من الحكومة، والشارع منبر الشعب، فلا يصح أن يسيطر الشارع الفوضوي على الشارع الديمقراطي، ولا يصح أن تقطع الطرق أمام أبواب رزق الناس في الشارع، فيما تظل شوارع الإرتزاق مفتوحة أمام أبواب السرايات والقصور.

خطيرة هي لعبة البليارد في مصالح الناس، التي تصوِّبُ بها على طابة وأنت تستهدف إصابة غيرها، هذه اللعبة أتْقَنهَا قديماً الرجل الأسطوري جحا الذي كان كلما تلقّى صفعة من آخر، ينهال ضرباً بالعصا على خالته.