IMLebanon

للمتوفّين من الرواتب نصيب

 

كما في القطاع العام كذلك في نقابة المحامين في بيروت

 

أن يقبض أحد الأحياء راتباً «بدون دوام» حالات تمرّ. وهي غالباً كذلك، ولنا في القطاع العام نموذج. لكن أن ينطبق الأمر نفسه على متوفّين، فهذا أصعب على الفهم. في نقابة المحامين في بيروت، ثمة متوفّون مستمرّون على جدول المستفيدين من الراتب التقاعدي رغم جهود النقابة للتصحيح. إشكالية تضاف إلى أخريات هناك. والبعض يتحدّث عن «مسلسل تبييض وجّ مجاني» جارٍ على قدم وساق في هذه المسألة تحديداً. فلنتوسّع.

ليس ثمة نقص في المادة الجدلية في النقابة مؤخّراً. مِن تكلفة بناء بيت المحامي – التي لم تخرج إلى العلن – إلى الصندوق التعاوني والتقاعدي، فهجمة النقيب على خلفية موضوع الظهور الإعلامي للمحامين. قضية المتوفّين المتقاعدين هي جديدة – قديمة. وقد جرى التطرّق إليها الأسبوع الماضي من قِبَل أحد الأعضاء المنتخبين في صندوق تقاعد المحامين، المحامي يوسف الخطيب. أما الكلام فيرتبط بوثائق تظهّر صدور شيكات بمبالغ تُقدَّر قيمتها بما يفوق الـ15 مليون دولار (قبل الأزمة) بأسماء متقاعدين متوفّين داخل النقابة.

 

ردود الفعل انقسمت بين صمت نقابي أثار شكوك البعض، وبين مطالبين بتحديد الجهة أو الأشخاص المسؤولين والتحقيق بالأمر، وإلا اعتُبر ذلك تستُّراً غير مبرَّر و»قبّة باط» من داخل النقابة لاستمرار حال الفوضى لا سيّما وأن الموضوع ليس وليد الساعة. حاولنا مراراً وتكراراً الاتصال بالخطيب، لكنه امتنع عن الردّ. النقيب ناضر كسبار أحالنا بدوره إلى أمينة سرّ لجنة إدارة صندوق التقاعد، سعاد شعيب. فما أسباب تفشّي خبر صدور شيكات بأسماء متوفّين، ولماذا يكثُر الحديث عن هدرٍ سابقٍ وحالي في مالية صندوق التقاعد داخل النقابة، ولِمَ لم تقدّم الأخيرة توضيحاً للمحامين وللرأي العام وهي – أي النقابة – تُعدّ رمزاً للشفافية؟ ثم ماذا عن إجراءات المحاسبة؟ أسئلة كثيرة حملناها إلى شعيب. وبعد أسبوع من وعد بعد الآخر بالردّ، لم تأتِ الإجابة. فهل هو قرار بإبقاء «فضائح» النقابة شأناً داخلياً؟ ولِمَ الامتعاض الدائم من اهتمام الإعلام بشؤون أمّ النقابات؟ وهل المقصود من منع الظهور الإعلامي للمحامين نهي من هم على دراية بتفاصيل الفضائح عن الكلام؟

 

تقنيّة أم غياب نيّة؟

 

بعض المتابعين ممّن استوضحناهم تحدّثوا عن مشاكل تقنية في البرنامج الإلكتروني الخاص بصندوق التقاعد تقف وراء ما يحصل. فتوجّهنا إلى المكلَّف رسمياً من قِبَل لجنة التقاعد لحلّ المشكلة التقنية وتأهيل الموارد البشرية، المحامي علي (أليكس) جابر. يخبرنا أنه كُلّف من قِبَل نقيب المحامين السابق، النائب ملحم خلف، في العام 2021 لتطوير البرنامج ذات الصلة والتابع للنقابة في بيروت. مع العلم أن البرنامج يتضمن أسماء المستفيدين من الرواتب التقاعدية وفق القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، ومقرّرات مجلس صندوق التقاعد. «كان تطوّعي في هذا المجال يتعلّق بالشق التقني البحت، حيث قُمت بعملية تقييم للبرنامج الإلكتروني المعمول به ورفعت تقريري إلى النقيب آنذاك مضيئاً على آلية تطوير البرنامج»، كما يشرح جابر. ماذا عن المشكلة التقنية إذاً؟ لقد لوحظ صدور حوالى 420 شيكاً لمستفيدين لا يحضرون لقبضها سنوياً، بحيث يكون المستفيد قد توفّي ولم تستلم النقابة وثيقة الوفاة ليُصار إلى شطب الاسم من جدول المستفيدين في البرنامج المذكور. علماً أنه لا يمكن شطب اسم أي مستفيد – من الناحيتين التقنية والقانونية – لمجرّد عدم حضوره دون التأكّد من السبب.

 

لكن ألم يحن الوقت للتأكّد من الأسباب ووقف ما يشبه «مهزلة» تتكرّر أربع مرات في السنة؟ «كان لا بدّ، من الناحية التقنية وقبل البدء بتطوير البرنامج، من إجراء جردة عامة بالمستفيدين الواردة أسماؤهم في البرنامج لتحديد المتوفّين بينهم أو من لم يعودوا مستفيدين من الراتب التقاعدي بهدف شطب أسمائهم من الجدول». أمر قد يبدو سهلاً نسبياً بالنسبة للمحامين المتقاعدين، غير أن المشكلة تكمن في المستفيدين من ورثة المحامي المتوفّي والذين لا يمكن تحديد كونهم على قيد الحياة من عدمه إلا بعد الاستحصال على وثيقة الوفاة من قِبَل المراجع الرسمية المختصة. انطلاقاً من ذلك، بحسب جابر، بدأ العمل بالتوازي على تطوير برنامج آخر يمكن ربطه بدوائر الدولة المعنيّة للتأكّد مما سبق، كما من الشروط الأخرى الآيلة لإبقاء الشخص المعني مستفيداً من الراتب التقاعدي بموجب القانون (كأن تكون الإبنة ما زالت عزباء، مثلاً).

 

عجز وحجز بانتظار التدقيق

 

المشاكل التقنية ما زالت تنتظر الحلول منذ العام 2021. «قد يطول الوقت قبل معالجة المشكلة لصعوبة ربط الدوائر والمؤسسات العامة إلكترونياً ببعضها البعض، كما الاستحصال على البيانات اللازمة بشكل دوري كلّما حان موعد إصدار الشيكات»، كما يقول جابر. على أي حال، كُلّف الأخير مجدداً كعضو في مركز المعلوماتية التابع للنقابة بعد انتخاب النقيب كسبار. فما كان منه إلّا أن عرض المشكلة التقنية على النقيب مزوّداً إياه بكافة المستندات والتقارير التي أُعدّت سابقاً. ويتابع: «شدّد النقيب على ضرورة استكمال عملية تطوير البرنامج الذي تمّ تصميمه بطريقة تمنع صدور هذه الشيكات في عدد معيّن من الحالات، وذلك بناء على بيانات جديدة اقترحنا إضافتها لحين التأكّد من أسباب عدم حضور المستفيد لعدّة مرات متتالية».

 

جابر رأى ضرورة في إعادة تأهيل القدرات البشرية للمشرفين على عملية إصدار الشيكات في الإدارة التابعة للنقابة، ذلك أن البرنامج الذي اعتادوا على استخدامه قديم نسبياً وغير صالحٍ للتدقيق. وأشار إلى أنه لمس الكثير من الأخطاء التقنية خلال عمله دفعته إلى تقديم تقرير واضح ومفصّل إلى مجلس صندوق التقاعد مفاده أن عدم استكمال الجردة للمستفيدين الحاليين سيُفاقم من ظاهرة إصدار شيكات لمتقاعدين متوفّين. وبين صدور الشيك الذي يُعتبر خطأً تقنياً بحتاً، وإمكانية صرفه أو إيداعه في حساب مصرفي، أفاد جابر أن مفوّض قصر العدل، المحامي عماد مارتينوس، فتح تحقيقاً في هذا الخصوص لمعرفة حقيقة ما يجري بناء على طلب النقيب كسبار الذي يتّجه بحسب معلومات «نداء الوطن» لإجراء تدقيق حسابات شامل. وبانتظار نتائج التحقيق تبقى التساؤلات مطروحة: هل هناك محاضر تَلْفٍ بالشيكات التي يقال أنها تُتلَف كل ثلاث أو خمس سنوات؟ ومن يُعوّض عن القيمة المحجوزة في حسابات النقابة المصرفية مقابل الشيكات الصادرة، قُبِضَت أم لا، في حين أن النقابة تعاني من عجز دائم في صناديقها؟

 

المسؤولية مشتركة

 

ما يحصل في نقابة المحامين في بيروت سبق وأن حذّر منه رئيس مؤسسة لابورا، الأب طوني خضرا، على مستوى القطاع العام منذ العام 2018. إذ أشار حينذاك إلى استمرار حوالى ألفي موظف بـ»تقاضي» رواتبهم من الدولة بعد وفاتهم إلى جانب تقاضي حوالى 20 ألفاً آخرين رواتب من دون تقديم أي خدمات. بعد خمس سنوات وبالتحديد بعد خراب «البصرة» اللبنانية، ماذا يقول الأب خضرا لـ»نداء الوطن»؟: «الحقيقة أن الأرقام تتخطى ذلك بكثير… فهناك حوالى 3 آلاف من الموظفين المتوفّين و30 ألفاً من غير المنتجين يتقاضون آخر كل شهر. هذا إضافة إلى حوالى 6400 موظف التحقوا بالقطاع العام بعد صدور قرار منع التوظيف في العام 2017. ورغم قرار مجلس شورى الدولة بإلغاء توظيف 900 منهم، إلّا أن القرار لم يُنفَّذ حتى الساعة». وهذه ملاحظة: وفق أرقام لابورا، يضم القطاع العام 350 ألف موظفٍ، وهو رقم مهول، أكثر من نصفهم مستشارون بالتعاقد ولا يعملون فعلياً.

 

عودة إلى 2018 حيث تقدّم وزير المال في حينه، علي حسن خليل، بطلب إلى المدعي العام المالي، القاضي علي ابراهيم، لاتخاذ الإجراءات اللازمة. فماذا حصل؟ «طُلب التحقيق معي لمحاسبتي على إظهار الحقيقة… وكما سائر قضايا هذا البلد، طُوي الملف في أدراج المدعي العام»، كما يجيب الأب خضرا، مضيفاً أن هذه الظروف ساهمت مباشرة بتدهور القطاع العام. «لقد حذّرنا من رفع الرواتب في العام 2017 ومن الاستمرار في سياسة الفساد التي أوصلت القطاع إلى ما هو عليه اليوم، لكن يبدو أن ثمة اتفاقاً دولياً على تدمير القطاع من أجل العمل على إعادة هيكلته ليصبح أكثر إنتاجية». فَمَن ساهم في الانهيار، من وجهة نظره، هما السلطة من جهة والموظفون من جهة أخرى لأنهم قَبِلوا الخضوع لكل ما تقدم من حيثيات. وإذ اعتقد أن الانهيار التام للقطاع العام لم يأتِ بعد رغم كل شيء، حذّر من الزبائنية ومن سعي السياسيين إلى الإبقاء على «موظفيهم» المزروعين هنا وهناك كي لا ينهار السقف عليهم قبل الآخرين.

 

… وتجربة حيّة

 

هذه عيّنة عن كيفية تقاضي المتوفّي راتبه على لسان ابن أحدهم. الابن قرّر بعد أربع سنوات على وفاة والده بيع قطعة أرض تملكها العائلة. وبعد أن همّ بإنهاء معاملات حصر الإرث، تفاجأ بأن والده ما زال «على قيد الحياة» بحسب الأوراق الرسمية وبأن هناك من يتقاضى راتبه. «يحق لأي فرد من أفراد العائلة الاستمرار بتقاضي راتب المتوفّي والتوقيع عنه. كما يمكن لشخص ما انتحال صفة الموظف المتوفّي واستلام الراتب. من هنا المطالبة بمكننة القطاع العام كما الوظائف العامة بهدف توحيد الداتا والمعلومات الخاصة بموظفي الدولة… لكن على الوعد يا كمّون».

 

نختم كما بدأنا، وإلى نقابة المحامين في بيروت نعود. فقد أشارت مصادر نقابية لـ»نداء الوطن» أنه لا يمكن التحجج بالمشاكل التقنية أو استغلالها لإعفاء القيّمين داخل النقابة من مسؤولياتهم، إذ كان يكفي تكليف بعض الموظفين داخل النقابة القيام بالاتصالات اللازمة للاستعلام عن أسباب عدم الحضور. لكن ما تخشاه المصادر نفسها هو أن يكون «وراء الأكمة ما وراءها» بحيث أن هناك فئة مستفيدة من اللغط الحاصل، لا سيما وأن الحملة التي انطلقت بعنوان «مسلسل تبييض وجّ مجاني» توقفت بشكل مفاجئ ولأسباب مجهولة، علماً أن أحد مطلقيها كان من عداد المستفيدين مباشرة من الخلل التقني الحاصل.

 

كل ذلك ويحدّثونك عن الفساد (أو الفوضى أقلّه) وتعميمه والسكوت عنه. وكأنه قدر جماعيّ محتوم.