IMLebanon

عروس أجهضت قبل أوانها

 

 

كيف حال عروستنا؟ سألت جارة صديقة بحياء. بقي الجواب مبهماً والأحرف مفككة. خيّم الصمت فترة، فهو غالباً بليغ بما فيه الكفاية، لكنه رغم ذلك لم يمنع تدفق سيل من الأسئلة. شغلت العروس بال كثيرين. الكل يسأل عن حالها. ما بالها؟ ضجّت بالحياة وبعثت الأمل في النفوس، كأنها أمّ لمّت حولها أبناءً من كل حدب وصوب، ومن كل اتجاه ورأي، ثم انطفأت.

 

فجأة غلبتها سكينة مريبة، كهدوء حذر بعد ساعات من معارك ضارية. رقدت من دون أن تُسلم الروح، كموت مؤجل أو حياة مسلوبة. صدحت فيها الحناجر ثم تبددت الأصوات ولم يعد صداها يودي إلى أي مكان. علت في ساحتها القبضات المنتفضة ثم انمحى أثرها كأغصان يبست عطشاً. تمايلت فيها الأجساد وتناغمت أياماً وليالي طويلة، لكن بعد حين غادرها الجميع وعادت وحيدة، وبقي السؤال عالقاً: كيف حال عروستنا؟ كيف حالها بعد سلسلة الخيبات والانكسارات؟ كيف حالها بعدما صمّ المعنيون آذانهم عن أوجاعها وانتفاضتها الصادقة؟ كيف تقاوم أزمتها الاقتصادية الحادة وقد جُردت من كل أسلحتها؟ كيف تستمر وقد بلغت نسبة الفقر المدقع فيها حدود 26 في المئة، بينما يعيش 57 في المئة من أبنائها عند خط الفقر أو دونه، وفق تقارير الأمم المتحدة؟ كيف تعيش العروس طرابلس وسط كل هذا السواد المحيط بها؟

 

طرابلس: الحدث الأبرز

 

تشكّل ذكرى ثورة 17 تشرين مناسبة لمراجعة مسار الأحداث في المدينة، ومحاولة الحصول على إجابات عن كل ما سبق من أسئلة واحتمالات وعلامات استفهام محيّرة. فما حدث في طرابلس لا يشبه في حيثياته ما حدث في أي منطقة لبنانية أخرى. إذ شكّلت المدينة التي لُقبت على مدى سنوات بـ “قلعة المسلمين” الحدث الأبرز على المستوى المحلي والعالمي، فقد كسرت العديد من الصور النمطية التي ارتبطت بها على مرّ زمن. فكما بات معلوماً، وصمت طرابلس لسنوات، ونتيجة لسلسلة من الأحداث الدموية على خلفيات طائفية ومذهبية أبرزها معارك جبل محسن وباب التبانة، بالتشدد والتطرف والجهل، ما أدى إلى قطع أوصال بينها وبين العديد من المدن اللبنانية، فباتت المدينة التي يخرج منها الآلاف، طلباً لعلم أو عمل أو تنزه، ولا يدخلها أحد. وقد ساهمت الأزمات السياسية المستمرة التي سخّرتها كصندوق بريد ومنصة للتلويح بالحرب بمضاعفة هذا الواقع. فضلاً عن الإهمال الرسمي المستمر منذ عقود والذي أمسى واضحاً وفق التجربة بأنه ممنهج ومقصود.

 

إذ ثمة الكثير من المعطيات عن عجز أحوال عاصمة الشمال التي يجتاح الفقر 80 في المئة من عدد سكانها المقدّر بنحو 500 ألف. هذه المدينة التي تحتضن معرض رشيد كرامي الدولي ومرفأ ومنطقة اقتصادية حرة ومصفاة للنفط، إضافة الى الأسواق القديمة وما تحتويه من حرف كسوق النحاسين والعطارين والحلويات والصابون والصاغة والحمَّامات والمفروشات، فضلاً عن طاقات الشباب والمنطقة البحرية المؤهلة لتكون مركزاً سياحياً بامتياز، لم يكتب لها النهوض بسبب تهميشها. فاستناداً إلى الإحصاء المركزي إن معدلات الدخل الوسطي للأسرة الشمالية لا يزيد عن 1.38 مليون ليرة. وبحسب دراسة مؤسسة البحوث والاستشارات، إن 73% من الأسر ليس لديها أي نوع من التغطية الصحية.

 

وتبلغ هذه النسبة أقصى مستوى لها في مناطق مثل التبانة، حيث تقدّر بنحو 90%، وفي أبو سمرا حيث تقدّر بنحو 83%، والقبة ــ جبل محسن بنحو 82%. وفي مناطق معيّنة تصل هذه النسبة إلى 46% و47% مثل بساتين طرابلس والميناء. ونسبة الأمية ترتفع إلى 11% ونسبة الجامعيين تقتصر على 7%، في حين أن البطالة تجاوزت حدود الـ 30% وهي نسبة تفاقمت بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي ضربت البلاد من جهة، والتي ترافقت مع تفشي وباء كورونا من جهة أخرى، وهو ما دفع العديد من المؤسسات إلى الإقفال، حيث تعثرت مالياً وأقفلت أكثر من 600 مؤسسة نتيجة تراجع الحركة التجارية بأكثر من 20% خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ويبقى أخطر وأبرز مؤشر اجتماعي على إهمال المدينة تاريخياً متمثلاً بحصول 11% من الأسر المقيمة على مساعدات من زعماء سياسيين، وهي سياسة أرباب الطوائف الذين يمعنون في الإهمال لتمتين التبعية السياسية.

 

…وانقلب المشهد

 

كل هذا الوجع، الذي راكمته ولا تزال المدينة، انفجر غضباً بانتفاضة شعبية قلبت المشهد رأساً على عقب. فطرابلس التي شوّهت بصور زعمائها المرفوعة عند كل مفرق وشارع وأمام كل دكان ومبنى، ثارت ومشى أبناؤها منددين بأثريائها. مزقوا صورهم. أضرموا النار بالإطارات أمام منازلهم. صدحت حناجرهم بأسماء “شلّة الحرامية”، من دون خجل أو مواربة. انتفض الطرابلسيون حقيقة. واجهوا جلاديهم لأول مرة منذ عقود. تحدثوا عن تعاستهم. تحوّلت أرقام الفقر الواردة أعلاه إلى وجوه وأصوات مخنوقة.

 

تجسدت الأرقام على هيئة بشر ثائرين في الطرق. كان المشهد مهيباً. حتى رجال الدين تجرأت عليهم المدينة. لكن سرعان ما استفاق الناس من المشهد الحلم. حاولت طرابلس المقاومة وأبت أن تنطفئ، فكانت آخر مدينة ينسحب فيها الناس من ساحة الثورة. لكن على عكس مدن أخرى، بمجرد انسحاب المتظاهرين عادت لغة الدم لتخيّم على الشوارع وتربك المدينة. شُهر السلاح بوجه الجيش وحلّت الفوضى، ثم فتحت ملفات الخلايا الإرهابية النائمة. عادت الوصمة التي جهد الطرابلسيون لكسرها.

 

بسحر ساحر نشطت التوقيفات الأمنية في المدينة مجدداً. كل هذا تزامن مع اشتداد الخناق الاقتصادي على الناس الفقراء أصلاً، المنهكين من الجوع والعوز. غرق الطرابلسيون مجدداً بهموم يومياتهم لتأمين قوت ما لعائلاتهم. غرقوا بأحلام ومطالبات بالتغيير ودق مسمار في نعش الفساد. غرقوا في بحر أحلام الهجرة، بعدما ضاقوا ذرعاً بكل شيء وتعبوا من مراكمة الخيبات فلم يبق أمامهم سبيل سوى الفرار من واقع مميت في رحلات غير شرعية نحو الفردوس الأوروبي. اختنق الطرابلسيون بدموعهم بعدما أجهضت عروستهم وبات الأمل الباقي ضعيفاً باستعادتها عروساً.