IMLebanon

حُكْم الرأسين   

 

ملفان اعتبرتهما الحكومة أساسيين لإخراج لبنان من مأزقه الاقتصادي: ملف مكافحة الفساد وملف اللاجئين السوريين، وفي مقاربة كلّ من الملفين وجهتيّ نظر تعكسان انقساماً سياسياً حاداً ومنحى إخضاعياً وربما إلغائياً، يمارسه فريق الأكثرية. يتخذ هذان الملفان شكل الاستثمار لنصر سياسي تحقق يُراد منه الإجهاز على الخصم وإخراجه من ذاكرة اللبنانيين بعد إسقاطه أخلاقياً، وليس شكلاً إصلاحياً يُراد منه إنقاذ الوضع الاقتصادي والتردي السياسي والإداري الذي بلغته الدولة، وإعادة إطلاق عمل المؤسسات والأجهزة الرقابية والقضاء.

دخول حزب الله عبر خطاب أمينه العام على خط مكافحة الفساد، ووضعه في رأس قائمة أولويات الحزب وإعلانه الذهاب به حتى النهاية، بعد استعراضٍ للأزمة المالية التي يعيشها الحزب بفعل العقوبات الأميركية على إيران، يعني أنّ الحزب قدّم إشعاراً واضحاً للجميع بأنّ مرافقه المالية لن تدخل ضمن دائرة مكافحة الفساد، وبالتالي فإنّه ذاهب للدفاع عنها بكل الوسائل، بما يذكّر بدفاعه عن كاميرات المراقبة في محيط مطار بيروت التي كانت إعلاناً لمرحلة تضييق الحصار على الدولة.

كان بإمكان المندفعين في حملة مكافحة الفساد لو كانوا جدييّن فعلاً إلزام الحكومة، وهم أكثرية في داخلها، على اعتماد مسارين : الأول المباشرة بتعيين الهيئات الناظمة في الكهرباء والاتصالات والنفط وسواها من الكفاءات وخارج المحسوبيات السياسية، وتزويدها بالصلاحيات المطلوبة وإبلاغ الجهة الفرنسية المتابعة لمقررات سيدر بذلك، والثاني إلزام الحكومة بوقف دفع إيجارات الأبنية المستأجرة وغير المستعملة أو تلك التي تقضي الحاجة لضبط الإنفاق الى الاستغناء عنها، أو استنفار الإدارات لجباية الضرائب المترتبة للدولة بالإستعانة بالأجهزة الأمنية إذا لزم الأمر، أو جباية فواتير الكهرباء حيث تتعذر الجباية منذ عشرات السنين أو دعم مؤسسة كهرباء لبنان لتتجرأ على إصدار فواتير لأكثر من 30 بالمئة من إنتاجها غير المفوتر منذ سنوات، أو طرح ملف الأملاك البحرية التي لسياسيي الصف الأول الباع الطويل فيها. لكنّ فريق الأكثرية فضّل الانقضاض السياسي على المرحلة التأسيسية للجمهورية الثانية التي امتدت من العام 1993 حتى 2005 برموزها وإنجازاتها، بحيث يصبح وجود الرئيس الحريري على رأس الحكومة بمثابة أيقونة إعلان الانتصار ومقدّمةً لسَوق تلك المرحلة برمتها إلى المقصلة السياسية.

في ملف اللاجئين السوريين، تبدو الأمور منقلبة رأساً على عقب في أي تفصيل، صغيراً كان أو كبيراً، فعدم دعوة الوزير صالح الغريب لمؤتمر بروكسل بدت غير مقبولة لفريق الأكثرية، في حين بدت زيارة الوزير المذكور لسوريا دون تكليف من الحكومة ودون علم رئيسها أمراً ينبغي الدفاع عنه، بل مصدر اعتزاز للفريق المذكور، بالتوازي مع عدم تلبية وزير الخارجية جبران باسيل للدعوة بحجة أنّ المؤتمر بات مضيعة للوقت ولارتباطه بعشاء وفق جريدة الأخبار. رئيس الحكومة يشارك في مؤتمر بروكسل لدعم الدول المستضيفة للاجئين حيث تصرّ الدول المشاركة فيه على عودتهم الطوعيّة والآمنة برعاية دولية في حين يصرّ وزيره ومن وراءه على حصر عودتهم  بالنظام السوري ووفقاً لقواعده..

الأسبوعان المنصرمان أضافا إلى هذا الملف أكثر من مُعطى ينبغي أخذها بعين الاعتبار:

{ زيارة المفوض السامي للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين  فيليبو غراندي لرئيس الجمهورية حيث وضعه بنتيجة اجتماعاته مع مسؤولي النظام في سوريا وعدم تمكين طواقم المفوضيّة الساميّة من الوصول إلى العائدين لتقييم احتياجاتهم وهو ما يحول دون تدخّل الأمم المتحدة والمنظّمات غير الحكومية لإعادة تأهيل البنى التحتيّة، ومناشدته السلطات السورية العمل على إزالة العقبات الإدارية والقانونية التي تعرقل عودة  الناس إلى مناطقهم.

{ إعلان  المبعوث الدولي الجديد الى سوريا «غير بيدرسن»، الذي سيزور دمشق، خلال هذا الشهر أنّه متمسّك أكثر من سلفه بضرورة التزام القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 2254 والقرارات السابقة واللاحقة له، والتي تستند إلى خطة المبعوث السابق «دي ميستورا» وأنّه غير مرتاح للمماطلة وعدم الجدّية من طرف النظام السوري وأنّه عازم على تقديم تصوّر مبني على تسريع تشكيل اللجنة الدستورية وفتح ملف إطلاق سراح المعتقلين بالتوازي.

{ إعلان مساعد وزير خارجية الولايات المتّحدة لشؤون الشرق الأوسط دايفيد ساترفيلد عقب زيارته الى لبنان أنّ الولايات المتّحدة لا تدعم المبادرة الروسية وأنّ عملية العودة مرتبطة بانطلاق العملية السياسية بجديّة ووفقاً للقرارات الدولية. هذا في الوقت الذي يعتزم فيه رئيس الجمهورية زيارة موسكو للبحث مع الرئيس الروسي في مسألة عودة اللاجئين السوريين.

{ الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الأميركي «مايك بومبيو» للبنان خلال الشهر الجاري، والتي سيتناول خلالها العلاقات اللبنانية – الأميركية بمفهومها الواسع في ظلّ الإجراءات المتّخذة للحدّ من النفوذ الإيراني والموارد المالية لحزب الله ومسألة الحدود بين لبنان وسوريا، والموقف الأميركي من النظام السوري.

حكم الرأسين في لبنان سيجعل الحكومة عاجزة عن إرسال إشارات إيجابية للمجتمع الدولي للسير بمقررات سيدر وسيوقعها في شقاء الانتظار (وليس ترف الانتظار)، وسيبقي ملف مكافحة الفساد والإصلاحات عالقاً بين أجندات الدول المانحة والضامن الفرنسي من جهة وبين صراعات طواحين الهواء على النفوذ في الداخل من جهة أخرى. حكم الرأسين سيؤدي كذلك إلى اصطدام لبنان بالمجتمع الدولي وسيجعل من موضوع اللاجئين السوريين منصة يحاول من خلالها فريق الأكثرية الثأر لسوريا من المجتمع الدولي عبر بوابة الحكومة ورئيسها. حكم الرأسين قابل للانسحاب على باقي الملفات وهو قابل للتفاقم مع اشتداد دقة الاستحقاقات.

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات