IMLebanon

التغيير المنشود لا يتوقف عند الإعتذار

 

لم يبدّل إعتذار الرئيس المكلّف سعد الحريري عن تشكيل حكومة جديدة من صمت القبور المخيّم على رئاسة الجمهورية المسجاة في بعبدا، بعد أن أطلقت النار على نفسها عند كلّ بارقة أمل لاحت في الأفق. كالعادة عادت رئاسة الجمهورية الى الدوران في الحلقة الفارغة والبحث من خارج السياق الدستوري عن متطوّع طري العود هلامي الشكل، ليس لديه ما يخسره لإلقائه مجدداً في حلبة التدافع الحكومي. ومهما اختلفت الآراء في تقييم الرابح والخاسر بعد ماراتون التشكيل الذي امتد لتسعة أشهر، فإنّ الشقاء الذي يعيشه اللبنانيون بشكل يومي يفوق كلّ المبارزات التافهة وتسجيل النقاط والمواقف التي واكبت مهمة التشكيل المحكومة بالفشل، كما إنّ الإمعان في إسقاط رئاسة الجمهورية كمؤسسة وكقيمة في الحياة الدستورية والسياسية وتحويلها من مركز الحكم إلى واجهة لمشروع سياسي من خارج الحدود يعني بالدرجة الأولى السقوط المسبق لشاغل الموقع.

 

تظاهرة الـ(talk show) التي شهدتها شاشات التلفزة المستنفرة لمواكبة حدث الإعتذار شكّلت جزءاً مكمّلاً لمشهد الفشل المخيّم على الجمهورية. لم تستطع محاوِرة الرئيس المكلّف الخروج من سرديات سياسية درجت عليها محطتها الإخبارية، ولم تسعفها في ذلك لغة الجسد التي استخدمتها بكثافة. كذلك لم ينجح الرئيس الحريري في القفز فوق رتابة الأسئلة لإطلاع الجمهور اللبناني على «سعد الحريري الجديد» الذي اختبر تجربة سياسية خاطئة أعدّ قراراتها متطفلون هواة ملأوا أروقة بيت الوسط لسنوات، والمُراهن على التغيير في الإنتخابات النيابية المقبلة. إعتراف الرئيس الحريري بأنّ الصفقة الرئاسية استندت إلى الرهان على قدرة العماد عون على تعديل موقف حزب الله من بعض الملفات يدل على سذاجة المستشارين بالعوامل والسياقات التي أوصلت العماد لتبوّء كافة المسؤوليات منذ توليه قيادة الجيش وما قبلها، كما يدل على جهلهم بآليات اتّخاذ القرار في الجمهورية الإسلامية والمناورة المحدودة وربما المعدومة للحزب في التأثير على هذه القرارات.

 

وعلى شاشة أخرى لم تتمكّن البيادق التي استحضرها معدّ البرنامج لإدارة لعبة إعتادها، من استعادة بعضاً من نسبة المشاهدة، وربما أتى في هذا السياق الإتصال الهاتفي برئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط الذي أضحى مطلوباً منه وضع مفهوم جديد للتسوية السياسية وحدودها وضوابطها وتقنيات التعايش مع تسويات مفتوحة لا نهاية لها.

 

أمام جمود المشهد الإقليمي والدولي يمكن قراءة بعض المعطيات المواكبة للأزمة وربما تلمسّ منهج الخروج منها:

 

1- إنّ الجهد العربي المواكب للأزمة  اللبنانية لم يتعدَ مستوى المراقبة لما يجري، مع تقييم الجهد الدبلوماسي الملحوظ لا سيما لجمهورية مصر العربية على الصعيد السياسي والإقتصادي، فيما تقارب المملكة العربية السعودية لبنان من خلال ما يتّفق مع الرؤية الدولية للبنان وبالتنسيق معها، وهذا يتجلى بالثوابت التي أعلنها سفير المملكة العربية السعودية من بكركي ومنها التمسّك بالطائف ووحدة لبنان، بالإضافة إلى اللقاءات مع الهيئات الإقتصادية، ولا يبدو أنّ هناك جهداً عربياً حقيقياً لإحداث أي تعديل في الموازين القائمة في أكثر من بلد عربي إنطلاقاً من الساحة اللبنانية.

 

2- إنّ الجهد الدولي الذي ظهر في الفاتيكان وما تلاه من لقاءات للسفيرتين الأميركية والفرنسية في المملكة العربية السعودية لم يبلغ مستوى إحداث أي تغيير نوعي في المقاربة الدولية. كما إنّ ما رشح عن زيارة السفيرتين لرئيس الجمهورية قبيل إعتذار الحريري يظهر بما لا يقبل الشك أنّ مسألة النفوذ الإيراني في المنطقة محكومة حتى الآن بالمكابرة الأميركية وعدم الرغبة بالإعتراف بروسيا والصين كشركاء في المنطقة وبالضياع الاوروبي وغياب الاستراتيجية الواضحة. يبدو أنّ العلاقات الدولية الأوروبية العربية تمرّ بمرحلة تحول عن القيم المعهودة نحو الرهان على التسلل واستلحاق بعض النفوذ على فتات الإختلاف الإيراني الأميركي على دور طهران.

 

3- إنّ الاعتذار الذي قدّمه الرئيس الحريري قد لا يكون الإعتذار الأخير في مسلسل عقم السلطة في لبنان. وإنّ الرهان على موجات احتجاج عارمة بوسائل ديمقراطية لإحداث تغيير سياسي جذري في لبنان، أو انتظار التغيير بعد النتائج التي ستفضي إليها الإنتخابات النيابية هو رهان غير واقعي. فالتغيير الهادئ من خلال المؤسسات والمواثيق تفرضه إرادة دولية، وهذا يستند بدوره إلى تعاون دولي/إقليمي ومحلي لتغيير المشهد في الإقليم، وقد يكون إحداث تغيير في البرلمان هو أحد الواجبات المطلوبة. إنّ إبقاء الداخل اللبناني جاهزاً للشراكة مع المجتمع الدولي، هو التّحدي الحقيقي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على إبعاد عناصر التفجير الداخلي منعاً لتكرار النسخة السورية التي نجح النظام بالتحصّن خلفها، لا سيما بعد قصور المؤسسات الأمنية عن القيام بدورها بلّ والتماهي مع السلطة بعد تجربة تفجير مرفأ بيروت وتسيّب الحدود أمام التهريب.

 

إنّ الذهاب الى بناء شراكات ذات طابع إنساني وإقتصادي إنتاجي بين المجتمع المدني والمنظّمات الدولية يبدّد المطالبة الإقليمية والدولية بمظهر شعبوي للتغيير – أثبت عدم جدواه في لبنان – لصالح بناء جسور الثقة بين نخب لبنانية متنوعة ومتخصّصة مع المجتمع الدولي، وإفساح المجال لإقتصاد يحمي الأمن الإجتماعي والإستقرار الداخلي بعيداً عن سلطة أثبتت فشلها وفسادها، قد يكون المنهج الحقيقي، المنفتح على الجميع، والقادر على تقديم نموذج حقيقي لحوكمة رشيدة يقدّمها لبنانيون جديرون وقادرون على تغيير وجه لبنان.