IMLebanon

الحريري وقصر بعبدا: الباب مفتوح… بالانتظار

 

يجوز القول إنّ مرارة المِحن فعلت فعلها في شخصية رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. صقلتها جيداً. بدا في إطلالاته الأخيرة، أكثر المرّات ثقة بنفسه، عفوية مضبوطة لا تنمّ عن ضعف أو اعتلال. نجح في إيصال رسائله السياسية كما في محاكاة الجمهور من دون تكلّف أو لفّ ودوران أو الحاجة إلى الاستعانة بالحجج المصطنعة.

 

حاول قدر الإمكان قول الأمور كما هي، على بساط الوضوح والسهولة الممتنعة. لم يستثن أحداً من انتقاداته، بمن فيهم نفسه، ولكن من دون أن يقطع شعرة معاوية مع أي من القوى حتى تلك لو نضح الإناء في كثير من الأحيان، بقليل بما فيه. استخدم الأسلوب المخفف لـ”الكسر والجبر” في آنٍ واحدٍ، ولكن غير الحاد أو القاسي… لأنّه كما يبدو، يريد أن يأكل العنب لا أن يقتل الناطور. والعنب هنا، في السراي الحكومي.

 

أظهر الحريري بما لا يقبل الشكّ، أنّه مقتنع أنّ فرصة العودة قد تكون متاحة، أو أقله تستحق “شرف المحاولة” الأخيرة. لن يقدمها من جديد على طبق ممانعة السعودية لأي شخصية أخرى، سواء كانت من قماشة رفاقه في نادي رؤساء الحكومات السابقين أي نجيب ميقاتي، معلناً بصريح العبارة أنّه معارض للطرح الذي تقدم به القطب الطرابلسي، أو من الطامحين الجدد كالسفير مصطفى أديب الذي أسقطت محاولته بمنطق الفيتوات المتبادلة.

 

عملياً، عاد رئيس “تيار المستقبل” إلى المربع الأول: أنا أو لا أحد. لم يحسم ترشيحه الذي وضعه في الاطار الطبيعي لكنه كشف في المقابل عن نيّته في إجراء سلّة مشاورات خلال الساعات القليلة المقبلة مع القوى السياسية ليبني على الشيء مقتضاه. وهذا يعني بالنتيجة، أنّ الرجل أجرى تبديلاً جوهرياً في التكتيك الذي اعتمده منذ تقديم استقالته على أثر اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول. طوال تلك الفترة، فضّل الانكفاء والتسلّح بالصمت على قاعدة أنّه لا يرغب بالعودة إلى السراي، ولو أنّه كان يفاوض الثنائي الشيعي الذي ذهب في اغراءاته إلى درجة تقديم لبن العصفور، لكن الحريري كان يخشى محاذير تلك الخطوة.

 

بالأمس، قالها على نحو واضح: أنا من سأفاتح القوى السياسية بطرح عودتي إلى السراي. حدد القواعد والشروط. شكل الحكومة التي يريدها وأجندتها كما روزنامتها. “فإمّا تُقبل كما هي وإما تحمّلوا المسؤولية أمام الرأي العام”. هذه المعادلة بالذات فتحت باب التكهنات عما اذا كان رئيس الحكومة السابق بصدد إجراء مناورة على طريقة “اللهم أني بلغت”، تنتهي بدخول المشاورات في عنق الرفض واجهاض المبادرة الفرنسية في نسختها المحدّثة، لينقذ نفسه من نيران الشارع التي ستلتهم أخضر القوى السياسية ويابسها مع اندلاع الفوضى الاجتماعية – الاقتصادية.

 

لكن للمتفائلين، من خارج محيطه، وجهة نظر أخرى: الحريري جدّي في طرحه، لا بل جديّ جداً. وهذه المرة سيشتغلها بطريقة مختلفة، عبّر عن بعض ملامحها من خلال الأسلوب الذي اعتمده في اطلالته… والذي يمزج بين الحسم والانفتاح. قليل من كل شيء. هذه الوصفة لم تستثن رئاسة الجمهورية و”التيار الوطني الحر”، حيث حرص الحريري على ترك الباب الخلفي مفتوحاً مع الرئاسة الأولى وشريكه السابق “اللدود” جبران باسيل. وقد يكون مرد ذلك، إلى مناخ التهدئة الذي أحاط بقصر بعبدا مع تلاوة المبادرة الفرنسية. حتى أنّه عشية اتفاق الرباعي السني لم تكن الجبهة العونية ولا الرئاسة بصدد الوقوف على ضفّة التصدي لأي ترشيح قد يخرج من مدخنة النادي الرباعي حتى لو كان الحريري بنفسه.

 

تلك الأجواء كان يعرفها رئيس الحكومة السابق جيداً، وهو يعلم أنّ معادلة “الحريري – باسيل معاً داخل الحكومة أو خارجها” سقطت ولم تعد قابلة للحياة. باسيل بنفسه حسم جلوسه على مقاعد الانكفاء الحكومية، كما حسم قرار تياره بتسهيل ولادة الحكومة مهما كان الثمن. وقد يكون هذا رهان الحريري لهذه الجولة.

 

الفارق هو أنّ رئيس “تيار المستقبل” يسعى هذه المرة إلى ابرام اتفاق مسبق لضمان نجاح الفرصة الأخيرة. يريد التزامات محددة من باقي الأطراف قبل أن يحسم ترشيحه. ما يعني أنّ الصيغة السابقة التي كان يسوق لها “التيار” بأنّه قد يمنح الثقة ولكن من دون ضمان تأييده لعمل الحكومة، لن تجد لها مكاناً على طاولة النقاش الجدي.

 

يكفي أنّ “التيار” لم يسارع إلى شيطنة مبادرة الحريري وعلّق موقفه على حبل انتظار ما سيضعه رئيس الحكومة السابق على طاولته، للتأكد من أن باسيل رفع الفيتو، ليس حباً بالحريري وإنما خشية من الأعظم، ولأنّ هامش الاختيارات بات تقريباً مقفلاً.