IMLebanon

مؤتمرات الساحل بنسختها الدموية

 

 

في أوائل القرن الماضي، وبعد إعلان الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير ليكون “وطناً للمسيحيين”، برز تيار معارض قاده مسلمو الأقضية الساحلية اللبنانية، بالإضافة إلى الأقضية الأربعة التي أُلحقت بجبل لبنان (البقاع، بعلبك، حاصبيا، وراشيا)، مطالباً بتصحيح هذا “الخطأ” وضمّها إلى سوريا.

 

 

 

استمرّ هذا التيار المطالب بالوحدة مع سوريا بين عامي 1920 و1936 عبر عدة مؤتمرات وجلسات نقاش، قبل أن ينتقل العديد من قادته، وعلى رأسهم رياض الصلح وعبد الحميد كرامي، إلى ضفّة الجمهورية اللبنانية ويعترفوا بالكيان اللبناني بصيغته الميثاقية.

 

 

 

مؤتمرات الساحل، كما عُرفت حينها، تناولت نقاشاً يوصف بالعنيف حول طلب الوحدة مع سوريا والانفصال عن لبنان، ولكن لحسن الحظ، بقي هذا النقاش ضمن الإطار السياسي ولم يتحوّل إلى صراع دموي أو اقتتال داخلي. على النقيض من ذلك، فشل السوريون خلال الأسبوع المنصرم في تجنّب سيناريو الدم، فغرق الساحل السوري، ذو الغالبية العلوية، في بحرٍ من المجازر التي طالت المدنيين والأبرياء.

 

 

 

الانقلاب الفاشل الذي اتهمت السلطات به ما تبقّى من نظام الأسد، بالتنسيق مع “حزب اللّه” وبدعم إيراني مباشر، لم يكن مفاجئاً.

 

 

 

إيران استغلّت هذا التصعيد لمواصلة استراتيجيّتها في المتاجرة بدماء أهالي المشرق العربي، بغضّ النظر عن مذاهبهم وانتماءاتهم، وذلك لتأمين خط إمداد دائم يضمن استمرار تسليح وتمويل ميليشياتها، وفي مقدّمهم “حزب اللّه”.

 

 

 

رد فعل الإدارة السورية الجديدة، خصوصاً بعض التنظيمات المنضوية تحت راية الجيش السوري الجديد، جاء خدمةً مباشرة للطرف الإيراني، الذي يسعى لإعادة إنتاج “حلف الأقليات” في مواجهة “الجيش السني المزعوم”، وهو الخطاب الذي لطالما استخدمه النظام السوري وحلفاؤه.

 

 

 

المجزرة التي وقعت بحق العلويين في الساحل لا يمكن تبريرها أو تصغيرها، كما فعل الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عبر وصفها بأنها مجرد “جرائم فردية لعناصر غير منضبطة”، أو عبر اعتقال بعض المجرمين وعرضهم على وسائل الإعلام.

 

 

 

المطلوب من أي حكومة سورية مقبلة ليس فقط المحاسبة القضائية، بل فهم الأسباب العميقة التي تدفع البعض إلى إعادة إحياء عقلية “مؤتمر الساحل”، سواء بنسخته اللبنانية القديمة أو السورية المستجدّة.

 

 

 

عندما رفض الشيخ صالح العلي عرض الانتداب الفرنسي بإقامة دولة علوية مستقلة، كان مدركاً خطورة عزل العلويين عن النسيج الوطني السوري، كما أدرك ذلك غيره من القادة الوطنيين مثل سلطان باشا الأطرش وابراهيم هنانو.

 

 

 

العقلية الوحدوية والمركزية في المشرق العربي غالباً ما استُخدمت كأداة لقمع الأكثرية وليس لحمايتها، ما دفع الأصوات المطالبة باللامركزية أو الفدرالية أو حتى الانفصال إلى تقديم هذه الطروحات كمدخل لـ “الحرية”، وليس فقط كخيار اقتصادي أو إداري.

 

 

 

من هنا، لا يجب على الأكثرية أو الأقلية، من أي طائفة أو مذهب، أن تسمح باستخدام “حلف الأقليات” كأداة للإتجار بدمائها، كما حصل في الساحل السوري أو في جرمانا الأسبوع المنصرم. المطلوب ليس فقط محاسبة المرتكبين قضائياً، بل وضع خارطة طريق دستورية واضحة تحمي أهل الساحل والداخل السوري من أي مغامرة وحدوية أو انفصالية جديدة قد تُستخدم كذريعة لحروب دموية مستقبلية.

 

 

 

الأهم من ذلك، يجب أن يكون هناك طرح وطني شامل يضمن حماية كل المكونات السورية دون تمييز، عبر بناء دولة مدنية عادلة تحترم التنوّع ولا تستغلّه.

 

 

 

في الإطار اللبناني، لا يجب السماح بأن تبقى جرائم الساحل السوري منفصلة عن الجريمة الكبرى المستمرّة في لبنان، والمتمثلة بالإبقاء على سلاح إيران، الذي دمّر لبنان وقتل قياداته باسم مشروع توسعي لا يعبأ بدماء الأبرياء.