IMLebanon

صلاح الدين الأيّوبي والموحّدون الدروز… الإنتماء للأمّة أوّلاً

لم تكن ظروف أمَّتِنا تدعو للرجوع إلى التاريخ للمقارنة وأخذِ العبَر مثلما هي عليه اليوم. وما تمرّ به الأمّة هذه الأيّام يكاد يكون صورةً عمّا كانت عليه زمن صلاح الدين الأيّوبي، مع اختلاف الأسماء والمسمّيات.

كانت الأمّة ممزّقةً من الداخل، وكان الفرنجة يحاولون تثبيتَ احتلالهم أو توسيعَه، وكان على القادة التاريخيين من عماد الدين زنكي إلى ولده نور الدين إلى صلاح الدين الأيّوبي مواجهة كلّ هذه الأخطار، إضافةً إلى خطر الحركات الباطنيّة المتواطئة مع الاحتلال ضد مصالح الأمّة، مثل الحشاشين وغيرهم.

هذه المواجهة كانت على المستوى الشامل، لأنّ خطرَ الزحف الفرنجي لم يكن يقصد منطقة بعينها أو حاكماً بعينه، إنّما كان يقصد الشرقَ والقدس في المقام الأوّل بما تعنيه القدس دينيّاً وتاريخيّاً.

وما تواجهه الأمّة اليوم لا يختلف عمّا واجهته بالأمس. إحتلال إسرائيلي لفلسطين، هيمنة أميركية غربيّة على الدوَل العربية، إحتلال أميركي – فارسي للعراق، والعمل على اقتلاع المكوّن العربي – السُنّي منه، محاولات فارسيّة للسيطرة على اليمن والخليج وسوريا ولبنان بغطاء أميركي وارتياح إسرائيلي، إلى جانب ترَهّل وتشَتُّت وفقدان الإرادة في الداخل العربي، الأمر الذي يعطي للعدوّ في هذا الواقع الخطير مسوّغات القوّة والتمادي في فجوره وإفراغ أحقاده وأطماعه. وفي مثل هذه المواجهات المصيريّة تحتاج الأمّة كلَّ مكوّناتها، وتظهِر حقيقةَ انتمائها لهذه الأمّة أو زيفَ هذا الانتماء.

وإذا كان دين معيَّن أو مذهب معيّن يشَكّل المكوّن الأساسيّ والأكبر للأمّة، فهذا لا يعني أنّ المكوّنات الأخرى، صغرَ حجمُها أو كبُر، أقلُّ مسؤوليّة في الدفاع عن مصالح الأمّة حين يتهدّدها خطر مصيريّ لا يُميّز بين مكوّن وآخر، إلّا حين يُراد للفتنة أن تذرّ قرنَها. ولنا في موقف التنوخيّين الموحّدين أثناء حروب الفرنجة، وتصَدّيهم للدفاع عن ثغور الأمّة أكبر مثال على ما يمكن أن يقدّمه أيّ مكوّن من مكوّنات الأمّة للحفاظ على حرّيتها وكرامتها.

فصلاح الدين الأيوبي (السنّي) يقود الأمّة بكلّ مكوّناتها ويدافع عن كلّ هذه المكوّنات أمام عدوان الفرنجة.

وهو يضَع نصبَ عينيه أهدافاً قضى عمرَه في سبيل تحقيقها:

– توحيد الأمّة وتحصين وحدتها في وجه الأخطار الداخليّة والخارجيّة.

– تحرير الأمّة من الاحتلال الفرنجي، والقدس قبل كلّ شيء، بما ترمز إليه دينيّاً وتاريخيّاً.

وفي سبيل ذلك كان يَحرص على لمِّ الشملِ وجمع طاقات الأمّة كلّها. هكذا فهمَ التنّوخيون الموحّدون العلاقة بينهم وبين القائد، وهكذا فهموا انتماءَهم للأمّة وكرّسوا ذلك بالعمل والتضحيات.

فبعد الانتصار العظيم في حطّين (4 تمّوز 1187)، وقبل أن يتوجّه لتحرير بيت المقدس ليُحقّقَ الحلمَ الذي طالما جاهدَ من أجله، رأى صلاح الدين أن يؤمّن ظَهرَ جيشه بفتح مدنِ الساحل. وعلى أبواب بيروت لاقاه الأمير جمال الدين حجي التنّوخي عند خلدة، وسار معه لحصار المدينة، ثمّ تحريرها. وكان التنّوخيون قبل ذلك يحكمون بيروت، واضطرّوا لإخلائها بعد قتال بطوليّ ضدّ الفرنجة الغزاة.

دخلَ صلاح الدين بيروت وإلى جانبه الأمير التنّوخي، ورَبَّتَ صلاح الدين على كتفه قائلاً له: لقد أخذنا لك بالثأر. ثمّ إنّه ثبَّتَ حكمَ عائلته في الغرب من بيروت وعلى الطريق الواصل بين بيروت ودمشق بما لهذا الطريق من أهمّية عسكرية وأمنيّة.

لم يسأل صلاح الدين الأمير التنّوخي عن الخلاف المذهبي بين الدروز والسُنّة، ولم يسأل الأمير التنّوخي صلاح الدين كيف ينظر إلى الدروز، وإنّما سألَ الاثنان عن حقيقة واحدة: كيف نكون أمّةً واحدة بكلّ أطيافها، وكيف نواجه موحَّدين عدوَّ الأمّة لنحيا بإيماننا وكرامتنا.

أكثر من ذلك، فبَعد انتصار صلاح الدين في معركة حطّين، تمَّ بناء مقام النبي شعيب المطلّ على بحيرة طبَرية، بما يعنيه هذا المقام عند الموحّدين الدروز، وهو أقدمُ موقع ديني عندهم.

ولا يقتصر الأمر على طائفة الموحّدين دون غيرهم. فإذا كان البعض من مكوّنات أخرى كالمسيحيين والشيعة قد تعاون مع الفرنجة الغزاة، فإنّ البعض الآخر منهم أكّد انتماءَه للأمّة بالدفاع عنها والعمل على وحدة كلمتها.

ولنا في قاضي حلب الشيعي ابن الخشاب أفضل مثال على شخصيّة تاريخية لم توفّر جهداً في التحريض على الدفاع عن الأمّة في وجه المحتلّ. لقد استعانَ أرمن أنطاكيا بصلاح الدين لحمايتهم من فريدريك بربروسا الملك الجرماني القادم لاحتلال بلادهم، لأنّهم يؤمنون بمرجعيّة صلاح الدين وعدلِه؛ كما أنّ مطرانهم كان على تعاون وثيق مع صلاح الدين.

وفي مقابلةٍ مع موسى المعماري صاحب قلعة موسى في الشوف، قال إنّ أجدادَه كانوا يبنون القلاع والحصون لصلاح الدين. ألَا يعني هذا أنّ قائدَ الأمّة كان على ثقة كبيرة بجميع أبناء أمّته الذين يُثبتون إخلاصَهم، وإلّا لَما أمَّنَهم على شيء له أهمّية عسكرية كبيرة، أعني بناءَ الحصون والقلاع.

وفي هذا السياق، لا ينبغي أن نعتقد أنّه لم يكن بين المكوّن الأساسي للأمّة أي السُنّة مَن لم يتعاون مع الأعداء لمكاسب شخصية أو عداوات محَلّية.

إنّ العودة إلى ذاكرة التاريخ تضَعُنا في مواجهة حقائق نعيشها اليوم، والحكيمُ مَن يأخذ العبرة من الماضي ليتجنّبَ منزلقات الحاضر.

صحيح أنّه ليس في أمّتنا اليوم قائدٌ مثلُ صلاح الدين، ولكنّ الأمّة تبقى هي الأمّة، والمخاطر تبقى هي المخاطر، وإنْ تغيّرَت الأشكال، وواجبُ الانتماء يبقى هو نفسُه في كلّ الظروف.

فمِن منطلقات خبيثة يحَرّك البعض ما يسمّونه حماية الأقلّيات في الشرق العربي، وهم بذلك يريدون في الحقيقة التحريضَ على المكوّن الأساسيّ أي السُنّة لإضعاف الأمّة.

والمستفيدون في المقام الأوّل من هذا التحرك الخبيث ثلاثُ دوَل:

– أميركا، لدوام المحافظة على مصالحها في المنطقة.

– إيران، لتسهيل وتبرير توسّعِها وسيطرتها على دوَل المنطقة، وقد تكلّم قادتُها بزهوٍ عن هذه السيطرة.

– الكيان الصهيوني، لضمان أمنِه الذي لا يكون إلّا بتشتيت المنطقة وإضعافها.

وبالطبع فإنّ روسيا والغرب غير منزعجين إطلاقاً من هذا التفتيت للمنطقة. لقد أخَذ هذا التحرّك الفتنوي بتحريك الأقلّيات بُعداً خطيراً بعد الحوادث المستنكرة والمشبوهة ضد الدروز في منطقة إدلب بسوريا.

غير أنّ حكماء الدروز، وعلى رأسِهم وليد جنبلاط، وقفوا وقفتَهم التاريخيّة، ولم نكن نتوقع منهم غيرَ ذلك، وجابَهوا هذه الفتنة بتوجيه البوصَلة الحقيقية لموقف الدروز وانتمائهم. ففي خلفيّة عقلِ وليد جنبلاط حجي التنوخي، وسلطان باشا الأطرش وشكيب أرسلان وكمال جنبلاط الذين تعتبرهم الأمّة من (قادتها) ولم تعتبرهم من (أقلّياتها).

إنّ أخطرَ ما في الأمر الانتقالُ مِن (الخطر على الأقلّيات) إلى (خطر الأقلّيات)، وهو ما لن يكون لمصلحةِ هذه الأقلّيات، لأنّ منطقَ التاريخ، وإنْ تعَثّر يوماً، فإنّه غير قابل للإلغاء.

إنّ الذين أساؤوا إلى دروز إدلب قد أساؤوا إلى السلوك الإسلامي عبر التاريخ، وأساؤوا بالتالي إلى الإسلام وإلى قيَم الأمّة، وإنّ الذين أرادوا النفخَ في نار الفتنة من الدروز أساؤوا إلى تاريخ الدروز وإلى حقيقة انتمائهم للأمّة.

ولم يكن صوت وليد جنبلاط يتيماً في مواجهة فتنة تحريك (الأقلّيات). فالقيادات المسيحيّة المسؤولة والواعية للواقع والتاريخ اتّخَذت الموقفَ نفسَه، وفي طليعة هؤلاء قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي أدركَ خطورةَ لعبة (حلف الأقلّيات) وأعلنَ بكلّ جرأة ووضوح رفضَه لها، منحازاً إلى مصلحة الأمّة التي تحفظ مصالح كلّ مكوّناتها.

كذلك فإنّ الأصوات الصادقة لقيادات شيعيّة دينيّة وسياسيّة، لم تخضع لكلّ الضغوط المحيطة بها، وأعلنَت رفضَها لما يسمّى (حلف الأقلّيات) الذي تسعى له أميركا وإيران ودولة العدوّ الصهيوني، مؤكّدةً انتماءَها التاريخي للأمّة ومتمسّكة بوحدةِ كلّ مكوّناتها.

إنّ وحدةَ هذه الأصوات المشبعة بالوعي التاريخي ضمانة أساسيّة لمواجهة كلّ المشاريع الهادفة إلى تشتيت الأمّة وإضعافها. وهنا فإنّ على المكوّن الأكبر، أي السُنّة، مسؤوليّة التعاطي أيضاً بوعي تاريخي في التكامل مع هذه الأصوات انسجاماً مع المسار التاريخي والقيَم التاريخية للأمّة ومصالحها الحاليّة والمستقبليّة.