IMLebanon

كان سعود الفيصل أشطر

 

متى أصبحت السعوديّة تكره حزب الله؟ هل كان ذلك بعد دخول الحزب سوريا ومساهمته في لجم «ثورتها» هناك؟ هل كانت تُحبّه، أو أقلّه لا تُريد سحقه، قبل ذلك؟ مِن الحبّ ما فضحته الوثائق المُسرّبة. فقبل أكثر مِن تسع سنوات، أيّ قبل «الربيع العربي» بسنوات، كان وزير خارجيّة السعوديّة، الراحل سعود الفيصل، يجتمع بكبير مستشاري الخارجيّة الأميركيّة، ديفيد ساترفيلد، طالباً مِنه غزو للقضاء على حزب الله «إلى الأبد». كان هذا قبل السبهان وابن سلمان.

 

في إحدى وثائق الخارجيّة الأميركيّة المُسرّبة (ويكيليكس) قبل سبع سنوات، والتي نشرتها صحيفة «غارديان» البريطانيّة، يقترح الفيصل «تأليف قوّة عربيّة، تدعمها الولايات المتّحدة وحلف شمال الأطلسي، بغية التدخّل في لبنان والقضاء على حزب الله». يُفصّل الفيصل خطّته، أمام ساترفيلد، ويقول: «إنّها بمثابة الردّ الأمني ــــ العسكري على التحدّي العسكري الذي تواجهه حكومة لبنان مِن الحزب».

لطالما اعتقد آل سعود أنّهم بأموالهم يُمكنهم دفع أميركا لتفعل ما يشتهون. وغالباً كانوا يُصابون بالخيبة. العهد الأميركي، التاريخي، لهم هو بالحفاظ على وجودهم مقابل الطاقة (اتّفاق كوينسي بين روزفلت وعبد العزيز عام 1945). وفى الأميركيّون بعهدهم، فعلاً، فظلّت العائلة الحاكمة حاكمة، أمّا في ما هو أبعد مِن ذلك فغالباً كان لهم رأيهم الخاص (إلا بما يُناسبهم).

الفيصل، بحسب الوثيقة المُسرّبة، يقول للأميركي: «على الولايات المتّحدة والأطلسي توفير وسائل النقل والدعم اللوجستي، فضلاً عن الغطاء البحري والجوي، وإلا فإنّ انتصار حزب الله في بيروت سيعني نهاية حكومة السنيورة واستيلاء الإيرانيين على لبنان». لمس الفيصل مِن ساترفيلد (كان سفيراً لبلاده في لبنان) عدم تحمّسه، أو عدم أخذه للمسألة على محمل الجدّ، فكان لا بدّ مِن تحريضه: «إنّ انتصار حزب الله، إلى جانب الأعمال الإيرانيّة في العراق، وعلى الجبهة الفلسطينيّة، سيكون كارثة للولايات المتّحدة والمنطقة بأسرها». لكن مستشار الخارجيّة الأميركي ليس شيخ عشيرة في القصيم مثلاً. هذا ما سيكتشفه وزير الخارجيّة السعوديّة، إذ ذُيّلت الوثيقة الأميركيّة بالإشارة إلى أنّ ساترفيلد «شكّك في الجدوى العسكريّة والسياسيّة للخطّة». والطريف أنّ الفيصل، في معرض شرحه لخطّته الملحميّة، كان يرى «أن لبنان سيكون معركة سهلة لانتصار الحلفاء المعادين لإيران» (مِن بين كلّ الجبهات الإقليميّة التي كانت إيران تتقدم عليها بحسب ما ورد).

متى أصبحت السعوديّة تكره حزب الله؟ خلال حرب تموز عام 2006 أو بعدها؟ بيان «المغامرة» الشهير صدر بداية الحرب. بيان «المصدر السعودي» الذي جاء فيه: «الوقت قد حان حتى تتحمّل هذه العناصر المسؤولية الكاملة وحدها عن أفعالها غير المسؤولة، وأنّ هذه العناصر وحدها مسؤولة عن إنهاء الأزمة التي خلقتها». كأنّ هناك مَن كان يطلب مِنهم العون! ستُظهِر وثيقة أميركيّة، لاحقاً، أن ذاك المصدر ليس سوى الخارجيّة السعوديّة نفسها. فالفيصل سيحرص أن يُرسِل نسخة عن البيان إلى السفير الأميركي في الرياض، جيمس أوبرويتر، إنّما منقوصة من العبارة التقليديّة التي تُشير إلى «التمادي الإسرائيلي». في تلك الأيّام، وقبل نهاية الحرب، رفض الفيصل في اتصال مع السفير الأميركي «أن تُشارك قوّات سعوديّة في قوّات حفظ السلام» في لبنان (بحسب وثيقة أخرى). هنا يرفض، لأن إسرائيل حاضرة والحزب لم يُهزم، أمّا بعد عامين فإنّه سيكون هو مَن يُطالب بإدارة غزو لبنان للقضاء على حزب الله. كان هذا قبل الأزمة في سوريا بخمس سنوات. قبل سمفونيّة «الاعتداء على الحرائر». نعم، في منتصف أيام الحرب، ستطلب السعوديّة مِن أميركا وقف إطلاق النار، أمّا السبب، بحسب الوثيقة، فيتلوه الفيصل: «أتمنى أن تطلبواً وقفاً لإطلاق النار وأن تتركوا حزب الله يرفضه. عندها سيكتشف الجميع حقيقة حزب الله بأنه خارج عن القانون. بدلاً من ذلك أنتم تحوّلون حزب الله إلى أبطال». رحل الفيصل عن هذا العالم حزيناً.

عودة بالزمن أبعد. إلى أيّام العدوان الإسرائيلي على لبنان قبل نحو 22 عاماً (عناقيد الغضب 1996). كان الراحل رفيق الحريري يجول العواصم، بالتنسيق مع دول القرار آنذاك، للوصول أخيراً إلى ما عُرِف بـ«تفاهم نيسان». بعد القاهرة وباريس والرباط، عاد الحريري إلى دمشق ليضع المسؤولين في حصيلة الجولة، ثم توجّه إلى بيروت ومِنها إلى السعوديّة عبر دمشق. كان عبد الله بن عبد العزيز ولياً للعهد آنذاك، والفيصل وزيراً للخارجيّة (ظلّ يشغل منصبه هذا نحو أربعين عاماً). هناك، في جدّة تحديداً، تسلّم الحريري الورقة الأميركيّة لوقف العدوان. لم يكن بإمكانه قبولها، لأنّ بنودها «تشرعن الاحتلال ولا تسير مع القرار 425 وبالتالي تلغي المقاومة». جال العالم لكنّه لم يتسلّمها إلا في السعوديّة! هذه دلالة غابت عن بال كثيرين مِمَن أرّخوا لتلك المرحلة. هذا ما استطاعت السعوديّة أن تخدم به لبنان آنذاك. الفيصل رحل، لكنّ نظيره الفرنسي إيرفيه دو شاريت لا يزال حيّاً، وهو على الأرجح لا يزال يذكر تلك الأيّام. أحداث تلك الحقبة، العلنيّة، لم تطلها وثائق «ويكيليكس». لا حاجة لذلك.

لم يكن حزب الله في تلك الأيّام يأتي بكلمة سوء ضدّ السعوديّة. لكنّها لم تُحبّه، بل لم تستطع أن تكفّ عن كرهه، وهو في زمن المقاومة الواضحة ضدّ الاحتلال الاسرائيلي (قبل التحرير وفي أيّام الحرب). ظلّ الحزب في أدبيّاته حريصاً على عدم ذكر السعوديّة بالاسم، حتّى عندما كان يأخذ عليها تآمرها ضدّه، فكان يقول بداية: دولة عربية. لاحقاً صار يقول: دولة خليجيّة. بعد ذلك: دولة الحرف الأول مِن اسمها… ويصمت. إلى أن طفح الكيل، فانفجر غضباً بعدما كانت المنطقة، برمّتها، قد تفجّرت. هو كره وجودي، مِن الجذور، لم تنفع معه كلّ محاولات الترقيع… إلا لتقطيع الوقت.