IMLebanon

تسوية الحريري «٢»: «السعودية خط أحمر» و«فرنسا الأم الحنون»

 

فور انتهاء أزمة إقامته بالسعودية وعودته إلى لبنان ليُدشّن مرحلة استبدال الاستقالة بالتريّث، زار الرئيس سعد الحريري مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان. وموضوعُ الزيارة كان من جهة لشكرِ الأخير على موقفه الوطني، ومن جهة ثانية للثناء على النبل الذي أظهرَه في إبداء وفائه له خلال الظرف الملتبس الذي صاحبَ تقديمَ استقالته من الرياض.

أكّد الحريري للمفتي دريان استمرار التزامه بواحدةٍ مِن أبرز ثوابته المُضافة لثابتته الخاصة بحفظ الاستقرار، ومفادها انّ السعودية ستظلّ تشكّل بالنسبة اليه «خطاً أحمر»، وأنه «مستمر في وفائه لصِلته بها ولأرثِ علاقة عائلته بالمملكة».

وحتى الأمس القريب كانت ثابتةُ علاقة الحريري بالسعودية بمثابة مسلَّمة لا تحتاج منه للتأكيد داخل لقاءاته المغلقة في الوسَطين السنّي السياسي والديني.

ولذا فإنّ مجرّد حِرص الحريري على تأكيدها بعد عودته الاخيرة من الرياض امام مرجعية السنّة الروحية وكذلك في لقاءات «بيت الوسط» المصغَّرة، يُعتبر في حد ذاته مؤشراً الى انّ إشكاليةً مستجدّة باتت تعتري هذه المسَلّمة التي اصبحت تحتاج من الآن وصاعداً لإيلائها عنايةً خاصة لدى مقاربتها والتعاطي معها.

ومبعثُ التعقيد الاساسي في هذه الإشكالية ينبع من أنّ السعودية تعيش حالة مراجعةٍ تغييرية (إصلاحية حسب تسميتها السعودية) لمجمل فلسفة تعاطيها مع نظرتها لذاتها ومع الوضع الاقليمي، ولبنان هو جزء فرعيّ مِن هذه المراجعة.

وثمّة مبعث آخَر للتعقيد الذي يُطاول هذه الإشكالية نفسِها، وهو يقع في أنّ «الريتم» السريع لمسار حدوث هذه التغيّرات في السعودية ترَك صدمةً لدى حلفاء المملكة ليس في لبنان فحسب، بل حتى في الخليج عموماً، حيث إنّ أحداً منهم لم يكن حتى الأمس القريب يتوقع رؤية نحو قرنٍ تقريباً من منظومة تقاليد التعاطي السياسي المتوارَث والصارم في ثباته، تنهار في أقلّ مِن عام، ويتمّ استبدالها بمنظومة تفكير سياسي جديد تتّسم بأنّها جذرية في مدى التغيير الذي أحدثته.

وبنتيجة هذه المستجدّات الصادمة، لم ينجح حتى هذه اللحظة حلفاء السعودية القريبون والبعيدون، في معرفة ما إذا كان سيمكنهم إيجاد صيغة تساعدهم على التأقلم مع السعودية الجديدة، أم انّهم سيجدون انفسَهم مجبرين بدورهم على إنشاء تغيير في أسلوب تحالفِهم معها، يناسب التغيير الذي أجرته المملكة في نظرتها الى علاقتها بهم. وجوهر ما يواجهه الحريري حالياً، هو أنه أحد هؤلاء الحلفاء للمملكة الذين يواجهون في هذه اللحظة الإشكالية المتمثلة بصعوبة الإجابة عن السؤال المحدّد التالي: ما هي الصيغة التي توفّر موجبات التأقلم مع السعودية الجديدة والحفاظ بالتالي على العلاقة التحالفية معها؟

يوجد حالياً رأيٌ شائع لدى متابِعي دقائق علاقة «بيت الوسط» بالرياض، ومفادُه أنّ الحريري توصّلَ الى خلاصات لها منزلة الحقائق، وبات مقتنعاً بأنه ملزَم بالتعامل مع المملكة انطلاقاً منها:

ـ أولى هذه الحقائق تتمثّل باقتناعه بأنّ كلّ المنظومة النمطية التي كانت ترشد علاقته بالسعودية خلال السنوات الماضية، والتي حفظها عن تجربة والده الطويلة معها، لم تعد صالحة لاعتبارها مفاهيم مفتاحية للعلاقة مع المملكة، بل هي أصبحت شيئاً من ماضي السعودية السحيق، رغم انّ عمر تغيّرِها لا يتجاوز العام الواحد فقط.

ـ الحقيقة الثانية تفيد أنّ السعودية تدخل رهانات جديدة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاقليمي، وهي تعتمد في معالجتها والتصدّي لها أو إنجازِها وسائلَ ومقاربات جديدة أيضاً.

ـ الحقيقة الثالثة يتمّ طرحُها كاستنتاج متأخّر لمحاكمة فترة العامين الماضيَين اللذين ظنّ خلالهما حلفاءُ المملكة أنّ أزمة اليمن التي تشكّل أولويةً للسعودية هي التي شغَلتها عن لبنان، ولكن تبيّن الآن أنّ الأولوية التي كانت ولا زالت تشغل تفكير السعودية ليست فقط أزمة اليمن، بل وإلى جانبها وقبلها أيضاً، طريقة ترتيب سياساتها في كلّ المنطقة على نحوٍ ينسجم مع التغيّر العميق الذي طرأ على فلسفة الحكم هناك في مقاربته لمشكلاته الداخلية ولمجمل سياساته الخارجية سواء تجاه الدول القريبة منها أو البعيدة.

ـ الحقيقة الرابعة تقع في أنه ليس مطروحاً في ذهن الحريري إعلان قطيعتِه مع السعودية الجديدة، وبكلام أدقّ ليس مطروحاً عنده «حتى التفكير في القطيعة معها». بل المطروح هو محاولة البحث عن «صيغة للتأقلم» مع الوضع السعودي الجديد، تنطلق من إقراره بأنّ التحوّلَ العميق الجاري فيها، يَجعل من المستحيل إعادة عقارب ساعة علاقتِه بها إلى مرحلة الصيغ الماضية التي كانت سائدةً حتى ما قبل الرابع من الشهر الماضي.

واستدراكاً، كلّ المطلوب الآن هو إيجاد صيغة تتيح التأقلمَ مع الوضع السعودي الجديد وتستطيع في الوقتِ عينِه ضمان بقاءِ حلفِه الاستراتيجي مع المملكة واستمرار دعمِها لموقعه كزعيم للسنّة في لبنان.

.. حتى هذه اللحظة لا يملك الحريري وصفةً تقدّم له حلّاً «لإشكالية طريقة التأقلم» مع السعودية الجديدة. وفي مقابل أنه نجَح منذ أيام بالخروج من حالة التريّث على مستوى عودته الى الحكومة، فإنه يواجه حالياً اضطرارَه إلى البقاء في حالة مراوحة داخل حالة التريّث الإقليمي، وذلك في انتظار جلاء إمكانية عودة الأمور الى نسَقٍ مفهوم وسَويّ مع الرياض.

ومنذ عودته من الرياض، وحتى هذه اللحظة، لم يحصل – بحسب ما تؤكّد كلّ الجهات العارفة – أيُّ تواصلٍ بين «بيت الوسط» وأيّ موقع قيادي في السعودية. ولكن في مقابل اعترافِ الحريريّين بذلك، فهُم يصرّون على تشبيهِ هذا الوضع القائم بأنه «حالة صمت» وليس «حالة فراق».

والمقصود بذلك هو انّ الحاصل ينطبق عليه وصفُ أنّه «حالة صمت تملأ مرحلة انتظار ولادةِ ظروفٍ جديدة متوقّعة تؤدّي الى طَيّ صفحةِ التشوّشِ في علاقاتهما لمصلحة تدشين صفحةٍ واضحة للطرفين».

ويعزو هؤلاء سببَ هذا الصمت الى أنّ كِلا الطرفين يتموضعان داخل حالة انتظار اكتمال خواتيم ما تبَقّى من تداعيات أزمة الاستقالة.. وفيما عنوان صمتِ السعودية هو انتظار معرفة ما إذا كان «النأي بالنفس» اللبناني هذه المرّة سيكون جدّياً؛ فإنّ عنوان صمتِ الحريري هو انتظار مؤشّرات تشي من جهة بأنّ الوضع الداخلي اللبناني بات يتعاطى بجدّية أكثر مع حراجةِ ما يواجهه إقليمياً وخصوصاً لجهة علاقته بالسعودية، وتشي من جهةٍ ثانية بأنّ الرياض تفاعلت إيجاباً مع تدخّلات دولية وبخاصة أوروبية معها في شأن لبنان.

مقولة جديدة

ولكنْ بعيداً مِن «نظرية الانتظار» التي يَعتبر كثيرون أنّها المصطلح الأكثر دقّةً في توصيف المرحلة الراهنة في لبنان، برَزت خلال الأسبوعين الاخيرين في كواليس سياسيةٍ لبنانية وإقليمية قراءةٌ سياسية تؤكّد أنّ لبنان تجاوَز مرحلة انتظار تثبيتِ البعدِ الاقليمي لتسوية عبور حكومة الحريري من «التريّث» إلى العمل.

وتُركّز هذه القراءة على فكرتين اثنتين مستجدّتين، تفيد أولاهما «أنّ لبنان دخَل في مناخ غطاء دولي وإقليمي جديد»، وثانيهما تؤكّد أنّ «موقع الرئاسة الثالثة الذي هناك لغطٌ حول مدى صحة أنّ السعودية سحبَت غطاءَها عنه، بات يُمثّل حالياً العاملَ الأكثرَ جذباً للعامل الدولي الجديد لكي يشمله بغطائه «.

وتطرح هذه القراءة واقعتين استجدّتا، تُبرّران من وجهة نظرها طرح سؤالٍ أكثر من مهم، وهو: هل دخلت «جمهورية الطائف» التي رعتها الإرادة العربية بدعمٍ دولي، مرحلة رعاية الإرادة الدولية نفسها التي كانت ترعى لبنان خلال الجمهورية الأولى (جمهورية 1943)؟

أمّا هاتان الواقعتان فهما:

أوّلاً – بروز دور باريس كمرجعية مدعومة أميركياً وإقليمياً، لرعاية استكمال حلّ البعد الإقليمي لأزمة استقالة الحريري، وأيضاً لإعادة لبنان الى خريطة دعمِ الدول المانحة لاقتصاده.

ومِن وجهة نظر قوى لبنانية وإقليمية وازنة، فإنّ ماكرون يَطمح إلى أن يَستثمر دورَه في لبنان كمنصّةٍ لعودة باريس إلى المنطقة. وذلك على نحوٍ يحاكي استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسِها، الذي يَستثمر بدوره في سوريا كمنصّةٍ لإعادة روسيا الى المنطقة.

وبحسب هذه المعلومات فإنّه لا يوجد حماسة في طهران لمنحِ باريس مساحة تمكينِِ لها في لبنان، تستخدمها منصّةً لإعادةِ إثبات حضورها في سياسات المشرق المتوسطي. وثمّة اعتقاد في أنّ جولة أحدِ قادة «الحشد الشعبي» العراقي قبل أيام في الجنوب، وتسريبَ صوَرٍ عنها عبر محطة تلفاز مؤيِّدة لهذه الجهة، إنّما يشكّل رسالةً ليس فقط لإسرائيل بأنّها ستواجه حرباً إقليمية شاملة في حال أشعلت حرباً ضد «حزب الله»، بل هي أيضاً رسالة لباريس لإفهامها أنّ هوامش نفوذها في لبنان ليست كبيرة، وأنّ باريس لا تستطيع تجاهُلَ وقائع موجودة في المنطقة التي تطمح للعودة اليها، وهي وقائع لديها امتداداتها انطلاقاً مِن لبنان حتى العراق وبالعكس.

ثانياً – كلّ الوقائع الراهنة تؤشّر الى أنّ الحريري يستمرّ حالياً كرئيس لحكومة حفظِ الاستقرار في لبنان، بدعمٍ دولي تقوم باريس بتجسيده عبر مبادراتها المختلفةِ الأوجُه في دعمِ لبنان وحكومته سياسياً واقتصادياً. وضمن هذه النقطة تحديداً تؤشّر القراءة عينُها الى تطوّرٍ تعتبره الأهمّ مِن بين كلّ الاحداث التي شهدها لبنان منذ انسحاب سوريا منه عام ٢٠٠٥ وحتى الآن، ومفادُه ما يشاع داخل محافل سياسية فرنسية – لبنانية قريبة من إدارة ماكرون عن أنّ فرنسا تعتزم تعبئة الفراغ السعودي في لبنان، بحيث تؤدّي بالنسبة الى موقع الرئاسة السنّي الثالث في لبنان دورَ «الأم الحنون» نفسه الذي كانت تؤدّيه لدعمِ موقع الرئاسة المسيحي الأوّل في لبنان خلال الجمهورية الأولى.

وتُذكّر هذه القراءة بأنّ فرنسا ومصر أُخرجتا معاً من لبنان عام ١٩٧٧، وها هما تعودان معاً إليه، وإن كانت القاهرة المثقَلة بمشكلاتها الداخلية الكبرى، تعود بدور المساعد وليس كفرنسا الراغبة في تصدّرِ الدور الخارجي في لبنان.

ويكشف أصحابُ هذه القراءة، أنّ اختيار باريس مكاناً لاجتماع باسيل – الحريري بعد عودة الأخير عن الاستقالة، لم يكن مصادفة، بل هدفُه التأشير الى أنّ الدور الفرنسي الجديد في لبنان له أفق أبعد من أنّه مرحليّ ومؤقّت.

وتضيف هذه المعلومات أنّ هذا الاجتماع الحريري – باسيل أسفرَ عمّا يسمّيه البعض تفاهم «التسوية الرئاسية ٢»؛ ومضمونها «ترحيل التفعيل الجدّي للملفات الاستراتيجية الداخلية – وبينها ملف الغاز – إلى الحكومة التي ستشكَّل برئاسة الحريري أيضاً بعد انتخابات أيار العام ٢٠١٨»؛ والتفاهم أيضاً على «تعاون مستقبلي يَضمن لكليهما دعمَ الآخر له في استحقاقاته الكبرى».