IMLebanon

رمزية الزيارة السعودية إلى لبنان

  

زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان إلى لبنان تميزت أهميتها على مشارف الاستحقاق الرئاسي، وقد استمرت بضعة أيام التقى خلالها الوزير كل الفعاليات اللبنانية المؤثرة باستثناء «حزب الله».

وحملت الزيارة رسائل مختلفة ورمزيات متنوعة من الضروري التوقف عندها وتأملها بدقة، إذ كثفت معانيها ملامح السياسة الخارجية السعودية المبادرة والواضحة.

في الشكل، أثبت اختيار القيادة السعودية ثامر السبهان للإطلالة اللبنانية تهافت بعض المنابر الانفعالية والمنحازة التي حاولت تصوير السياسة السعودية في العراق كسياسة شخصية لسفير، فكان الشق الأول من الإثبات ترقية السفير إلى وزير توسعت مهماته لتشمل الخليج العربي، وحين نتحدث عن الخليج لا نغفل العراق ولا نغفل إيران أيضاً. وجاء الشق الثاني من الإثبات في لبنان، وهو أن المبادئ السعودية العامة في العراق لا تختلف عنها في لبنان، مع مراعاة اختلاف المكونات والظروف بين البلدين، ذلك أن السعودية لا تنظر إلى البلدين من منظار طائفي، فالوزير السعودي التقى كل الأطياف اللبنانية وهذا بلا شك يزعج أعداء المملكة ولبنان، وهذا ما فعله الوزير بالتحديد حين كان سفيراً في العراق. توقع الإيرانيون أن تتوقف علاقته، والقصد هنا علاقة المملكة، عند العراقيين السنة، فيتعاظم الانقسام الطائفي ويتمزق المنطق الوطني، لكن المملكة كعادتها تمسكت بقيمها، فكانت علاقة سفارتها بالأطياف الشيعية لا تقل تشعباً وتمدداً عن علاقاتها بالسنة، وهذا التوجه الوطني – العربي هو ما أزعج إيران من المملكة وبالتالي من سفيرها، لكن هذه السياسة السعودية مستمرة، وهي – وحدها – قادرة على تفتيت المشروع الإيراني الأقلوي الطائفي الدخيل.

أما على صعيد المضمون فيطول الحديث، إذ أعلنت زيارة السبهان عودة السعودية إلى لبنان، ما يعني أيضاً عودة لبنان إلى العرب، فصمود المملكة كدولة إقليمية كبرى في وجه عواصف الفوضى والإرهاب التي اجتاحت غالبية الدول العربية المؤثرة في السنوات الماضية، حَافظَ على مكانة السعودية ودورها القيادي عربياً ودولياً.

ليس للمملكة مطامع في لبنان، لكن، هناك واجب أخلاقي على المملكة أن تقوم به كقوة إقليمية ودولية، وهناك صراع اقليمي يقع لبنان في جزء منه، بحكم وجوده في مرمى المطامع الإيرانية المتسللة إلى العالم العربي. غابت المملكة عن لبنان منذ نحو 3 سنوات بسبب تداعيات إقليمية، لكن هذه التداعيات اليوم تهدد لبنان بخطر داهم، من سورية خصوصاً، وحين يتعرض لبنان للخطر لن تتأخر عنه المملكة كما يؤكد التاريخ اللبناني، وهذا ينفي أي صفقة سعودية – إيرانية على حساب لبنان، وينفي كذلك أي انتصار إيراني مزعوم.

وأثبتت الزيارة متانة التحالفات السعودية، فإن كان لأعداء لبنان تحالفات مع ميليشيا فللمملكة تحالفات مع رجال الدولة على صعيد الأحزاب السياسية وزعماء الطوائف وكذلك التكنوقراط والنخب، وربما في مكان ما، يمكن قراءة الأزمة اللبنانية كصراع بين منطق الميليشيا ومنطق الدولة، كما يقرأ كصراع عربي ولبناني ضد إيران. والمملكة موقفها ثابت ودائم مع العرب ولبنان والدولة، واللافت في هذا المشهد ان الغياب السعودي عن لبنان زاد حلفاءها ولم ينقصهم، ومن أسباب ذلك إدراك اللبنانيين أهمية الدور السعودي وثقتهم بالقيادة السعودية في منطقة متفجرة ومنفلتة، فكانت الزيارة تحية للمتقربين الجدد، وتحية أكبر للأصدقاء القدامى والدائمين، وهذا ما أبطل شائعات كثيرة طاولت علاقة المملكة بهذا السياسي وذاك.

وفي هذا الباب، على صعيد آخر، جاء التزامن غير المقصود للزيارة السعودية مع إتمام الاستحقاق الرئاسي، ليؤكد أن علاقة الدولة اللبنانية بمحيطها العربي قدر محتوم تاريخياً وجغرافياً، ومن يحاول الاصــطدام بالتاريخ والجغرافيا يدمر ذاته ولا يلغي القدر. ونستــشف ذلك من شـــعور الطمــأنينة الذي قدمته الزيارة السعودية للتــسوية السيــاسية التي تبناها اللبنانيون، فشكلت الزيارة، عفوياً، ضمانة لتخوفات مشروعة ومنطقية أفرزتها حقيقة دخول الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا الرئاسي، إذ يجب أن نركز على المبدأ ونغض النظر عن الشخص، فبانتهاء الفراغ وعودة الانــتظام المؤسساتي والدســتوري والســياسي نئد مشروع نســف الدولة والمؤسسات الذي تريده إيران، كما نئد مشروع المؤتمر التأسيسي الذي يعني بلا شك مـــشروع حرب أهلـــية جديــدة لا يريدها اللبنانيون وأصدقاء لبنان ولا تتحملها المنطقة والمجتمع الدولي، هذا فضلاً عن ضمانات أخرى، منها عجز الميليشيا عن فتح أكثر من جبهة مع انغماسها الدموي في سورية، ومنها أن الاشتعال الداخلي سيكون ضد الميليشيا ولن يكون معها لضيق البيئة الحاضنة ولأن التسويات – غالباً – لا تنحاز الى الميليشيات، ومنها إصرار المجتمع الدولي – إلى الآن – على عدم انفلات ملف اللاجئين الســـوريين والفلسطينيين المؤثر في الميزان الديموغرافي اللبناني، وإصراره على استمرار هدوء الحدود بين لبنان وبين فلسطين المحتلة (إسرائيل)، إضافة إلى الغطاء الأميركي لأهم مؤسستين في الدولة اللبنانية، الجيش والمصرف المركزي، مع العلم أن كل هذه «الضمانات» لا تلغي الاحتمالات المفتوحة التي لا يتحكم فيها طرف واحد.

وأكدت الزيارة حماية المملكة منهج الاعتدال، وهذا ليس محصوراً بالسنة، بل يعبر كل الطوائف والمكونات العربية، وهذا المنهج هو النقيض لمنهج تحالف الأقليات (تحزّب الأقليات غير السنية وغير الإسلامية ضد الغالبية السنية)، ولا يحضر التناقض حين يظهر في هذه الرمزية الوزير السبهان الذي برز في العراق كمنفذ صلب للسياسة الهجومية ضد التطرف الإيراني وتمدده، فحين تكون إيران راعية تحالف الأقليات ضد العرب وضد قيمة الدولة، وتكون السعودية هي قلب العرب ودرع الدولة وراعية الاعتدال، تصبح النتيجة في أن انتصار الاعتدال يعني بالضرورة تقهقر المطامع الإيرانية وتطرفها في المنطقة العربية.

ومن خلال الود الملحوظ بين المملكة وبين الشيعة العرب في لبنان وفي العراق، نطمئن إلى أن السعودية تميز بين إيران وميليشياتها وبين الشيعة، ويمتد هذا إلى العلويين في سورية وتمييزهم عن بشار الأسد. ومن خلال العلاقة المتينة بين المملكة وبين جل الأطياف المسيحية اللبنانية وعلى رأسها حزب «القوات اللبنانية»، نطمئن إلى تقدير السعودية للتنوع وتمسكها به، وهنا ميزت المملكة نفسها عن إيران وعن «داعش» معاً، فالصراع سياسي وليس طائفياً، والعلاقة بين المكونات العربية تواصلية وتفاعلية وليست إلغائية أو استئصالية، وهنا نكسب – بحكم الرمزية الإسلامية للمملكة – تأصيل تصور إسلامي تنويري وحقيقي للذات وللآخر.

وفي هذا الباب أيضاً، نؤكد أن المعركة ضد «داعش» وجه آخر من الصراع العربي – الإيراني، فالدواعش يركزون هجماتهم على خصوم إيران، وحين يضربون حلفاءها – وهذا قليل – يجيء السياق داعماً للأهداف الإيرانية، بل إن وجود «داعش» في الأساس يساهم في تحقيق المشروع الإيراني بهدم قيم الدولة والمواطنة وتشويه الإسلام الأكثري من أجل تهجيره أو استعباده أو قتله. وليس غريباً إذاً أن تتشابه أفعال الميليشيات الإيرانية في لبنان وسورية والعراق مع أفعال «داعش» في مناطق وجودها، وهذا يرسخ الحقيقة التي سلف ذكرها: إن التطرف والإرهاب ملة واحدة، فـ «داعش» ليس سنياً، وميليشيا «حزب الله» ليست شيعية، كما أن الجمهورية الإيرانية لا علاقة لها سياسياً بالإسلام مطلقاً، والمقارنة هنا حتمية وقطعية. المملكة تحارب «داعش» في المملكة وفي سورية أمنياً وعسكرياً، في حين يزدهر «داعش» حيثما تحضر إيران وإن ادعت إيران محاربة «داعش»، لأن سياساتها الكيدية غير المباشرة وسياساتها العنصرية المباشرة تعزز «داعش» إن لم تنشئه.

الزيارة السعودية إلى لبنان تحمل في طياتها خيراً شاملا للّبنانيين ولدولتهم، ويغلب الظن، من خلال توقيت الزيارة وشكلها ومضمونها، بأن ترسيخاً تجديدياً للعلاقات السعودية – اللبنانية ستتضح ثماره الإيجابية في المدى المنظور، فإن لم تتحقق المصالح، درئت المفاسد المحدقة والمتكاثرة في هذا الزمن المتفجر، لكن الأمل معقود على جلب المصلحة وصد الأخطار معاً.