IMLebanon

الأمن خط أحمر والأسير الشاهد الأكبر

حقَّق الأمن العام اللبناني ضربة كبيرة عندما تمكّن من اعتقال أحد اكثر المطلوبين شهرة، أحمد الأسير.

ما من شك في أنّ هذا الصيد الثمين يضع في أيدي الدولة اللبنانية خزنة أسرار «حِرزانة» لملفّات كثيرة لا تزال غامضة وعصيّة على الدولة اللبنانية، بدءاً من كيفية نموّ هذا التنظيم ومَن ساعده على التمويل والتسلّح وصولاً الى خلاياه الموجودة، والتي تتعاون مع تنظيمات إرهابية أخرى مثل «داعش»، خصوصاً أنّ هذا التعاون ظهر في العديد من العمليات الارهابية.

سيأخذ التحقيق مع الأسير وقته الكافي لجَلاء كل هذه النقاط، لكنّ السؤال هو ما اذا كانت الظروف الداخلية ستسمح بإطلاع اللبنانيين على هذه التفاصيل الغامضة والمثيرة.

كل ذلك لا يحجب سؤالاً أساسياً ومهماً: كيف جرى الإيقاع بالأسير وهو الذي عاش لأكثر من سنتين متخّفياً ومتنقلاً؟ المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي اكتفى بالتعليق بأنّ دماء اللبنانيين لا يمكن أن تذهب هدراً، طلب من جهازه التكتم الكامل حول تفاصيل العملية ومسار التحقيقات لكي لا يؤثر ذلك على الشبكات الموجودة، وبالتالي فرار أفرادها، مضيفاً بأنّ توقيف الأسير جاء إثر عملية بالغة التعقيد.

لكنّ ذلك لم يمنع الاوساط الديبلوماسية المتابعة من الخروج باستنتاجات أولية. فالواضح أنّ الاسير كان موجوداً في بيئة فلسطينية بدليل وثيقة السفر الفلسطينية المزوّرة التي كان يحملها. ما يعني أنّ الاسير كان خلال المرحلة الاخيرة على الأقل موجوداً إمّا داخل مخيم عين الحلوة أو في مكان قريب منه، وهو ما كانت تُردّده الاجهزة الامنية اللبنانية خلال المرحلة الماضية.

كذلك، فإنّ الأسير كان لا يزال يحظى بتمويل سمح له بالتنكّر وشراء وثيقة سفر مزوّرة والتنقّل بكثير من الحرص، ما يعني أنّ جهة كبرى كانت لا تزال تتولى رعايته، وهذا ما يضيف استنتاجاً آخر بأنّ العمليات الارهابية التي شاركت فيها عناصر تابعة للأسير إنما كانت تخضع لضوء أخضر من الجهة التي لا تزال ترعى الأسير.

والمعروف كذلك أنّ اللواء عباس ابراهيم يتميّز عن غيره من المسؤولين الأمنيين بخبرته الواسعة والكبرى في الملف الفلسطيني. فمنذ توّليه مسؤولية مخابرات الجيش في الجنوب ومن ثم تعيينه مساعداً لمدير المخابرات، نسَج ابراهيم شبكة علاقات قوية داخل التركيبة الفلسطينية خصوصاً في عين الحلوة، سمحت للدولة اللبنانية في بعض المراحل بإدارة التناقضات الحاصلة في البؤرة الفلسطينية الأخطر وتحقيق المصالح الامنية اللبنانية.

وفي بعض المراحل فرَضت الدولة اللبنانية، عبر اللواء ابراهيم، مصالحات بين حركة «فتح» والحركات الفلسطينية الاخرى انسجاماً مع المصلحة الوطنية اللبنانية. وأدّت خبرته في الملف الفلسطيني دوراً أساسياً لتعيينه مديراً عاماً للأمن العام.

بالتأكيد، كانت أجهزة الدولة اللبنانية تلاحق احمد الاسير وغيره من المطلوبين طوال المرحلة الماضية، لكن في المدة الاخيرة حصلت تطوّرات مُقلقة داخل مخيم عين الحلوة وتجلّت بشهيّة التيارات الاسلامية المتطرّفة بالسيطرة على كامل المخيم.

هذا الواقع كانت تراقبه مخابرات الجيش في الجنوب منذ أكثر من عام ومن خلال العميد علي شحرور، وكانت العواصم الغربية التي تجري تنسيقاً دائماً مع السلطات اللبنانية حول الاوضاع الامنية في لبنان، وخصوصاً وضع المخيمات الفلسطينية، تُبدي تخوّفها من احتمال سيطرة الاسلاميين على المخيم وتحويله لاحقاً ساحة حرب مع الشيعة في الجنوب.

وأخيراً، باشرت هذه القوى الاسلامية المتطرفة تنفيذ خطة دمج بين فصائلها بهدف تطويق حركة «فتح» وطردها من المخيم، وجاءت محاولة اغتيال «اللينو» في هذا الاطار. ولم يكن أحمد الاسير بعيداً عن ذلك، لا بل كان في صلب هذا المشروع.

ويعتقد البعض أنّ مبدأ الاستقرار الامني الذي تتمسّك به العواصم الغربية في لبنان قد يكون تقاطعَ مع مصلحة الدولة اللبنانية. وربما جاء مَن يقنع الجهة الراعية للأسير برفع الغطاء عنه، ما جعل عملية الايقاع به اكثر سهولة، خصوصاً أنّ الأسير كان يتحضّر للسفر في مهمة تتعلق بمخيم عين الحلوة. وقد تكون المجموعة التي تَولّت تزوير وثيقة سفر الأسير شكّلت الثغرة الامنية التي سمحت باعتقاله، خصوصاً أنّ المجموعات التي تتولى هكذا أعمال تكون تحت الرقابة القصوى ومعروفة.

في شهر آب من السنة الماضية، اندلعت المعارك العنيفة في عرسال. يومها جرى مباغتة الجيش اللبناني واستهداف مواقعه. وليس سراً أنّ السفارات الكبرى تتولى مراقبة الوضع الأمني عن كثب إضافة لأوضاع المؤسسات الامنية والعسكرية اللبنانية كونها المسؤولة عن الاستقرار الامني.

يومها احتاج الجيش للذخائر، وخصوصاً للقذائف المدفعية. وفي الاتصال الذي حصل ما بين الدولة اللبنانية والقيادة الوسطى للجيش الاميركي، والتي يقع لبنان ضمن نطاقها، جرى تلبية الطلبات اللبنانية خلال ساعات.

لكنّ خصوصية معارك الجرد دفعت بلبنان لطلب أنواع محددة من الصواريخ، كون هذا السلاح قادر على إحراز أهداف دقيقة وفعّالة في معارك تدور في أراضٍ جردية وجبلية. ويُروى أنّ لبنان طلب من القيادة الوسطى الاميركية نوعاً محدداً من الصواريخ، لكنّ الجواب الاميركي الفوري كان بأنّ مخازن الجيش الاميركي في منطقة الشرق الاوسط تفتقد الى هذا النوع من الصواريخ حالياً.

وقال الجنرال لويد أوستن لمحدّثه اللبناني إنه إذا أردتم طلب ذلك بالطرق العادية من واشنطن، فستتسلّمون ذلك في مدة لا تقلّ عن السنتين لحين فتح الاعتمادات وإنجاز الترتيبات العادية. لكنّ أوستن استطرد قائلاً: لديّ أوامر بتقديم المساعدة إلى الجيش اللبناني، وسأرى ما أستطيع فعله.

وبعد ايام معدودة اتصلت القيادة الوسطى في الجيش الاميركي بالسلطات اللبنانية وأبلغتها أنها استطاعت سَحب 150 صاروخاً من مخازن جيوش صديقة في المنطقة، وأنّ الطائرة التي تحمل الصواريخ في طريقها الى لبنان.

الإستنتاج واضح: الإستقرار الامني في لبنان في هذه المرحلة خط أحمر، والأسير شاهد على ذلك.