IMLebanon

صفعة الإستشارات

 

من السذاجة الإفتراض أو التصديق أنّ ما شهدته الساحات خلال عطلة نهاية الأسبوع المنصرمة كان انسياباً منطقياً لحركة إعتراضية حافظت على سلميّتها لمدة ستين يوماً بالرغم من كلّ مناورات الإستفزاز والإستدراج. كلا لم تكن الصورة كذلك. فقراءة الحدث الأمني لاستنتاج الهدف السياسي أو محاولة تصوّر الظروف الأمنية الكفيلة ببلوغ هذا الهدف تُفضي الى النتيجة عينها. إنّ متابعة شبكات التواصل الإجتماعي كأحد أهم عناصر الإستعلام لتقدير المخاطر، والتي أظهرت القوى الأمنية منذ سنوات براعة في قراءة تقاطعاتها، تُفضي الى أنّ ما كان يحضّر له لا يمكن أن يحدث في غفلة من الزمن.

 

ليست ساحات الشهداء أو اللعازارية أو رياض الصلح جديدة على رجال الأمن، واستجابة قاطني الساحات وروّادها من اللبنانيين لرجال الأمن مركونٌ إليها، كما أنّ مصادر تهديد أمنها أضحت معروفة من خلال التجربة وليس من قبيل الإفتراض، وبالتالي فإنّ التسليم بنظرية العناصر المندسّة كما تمّ تسويقها لا يقارب المنطق. فالمفهوم البديهي للعناصر المندسّة أنّها عناصر قليلة العدد، غير متوقّعة في الزمان والمكان، أهدافها مجهولة وطريقة عملها غير محدّدة، وهذه كلها كانت عوامل غير محققة بل على العكس كلّ ما جرى كان ملموساً ومدركاً بالتجربة المتكررة.

 

هل كان المقصود من خلال هذا الضغط الأمني إخلاء الساحات من اللبنانيين الثائرين وتكريس واقع ميداني جديد يتمّ إستثماره في الإستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة؟ أليس هذا هدفاً مشتركاً لجميع السياسيين الراغبين بالعودة الى المشهد السياسي بشكل مباشر أو تحت مسميّات تكنوقراطية أو سياسية من الصف الثاني؟ وإلا فكيف يمكن تفسير تضافر جهود بعض مجموعات الأمن الشرعية مع المعتدين على الساحات، وإن تحت مُسمى المندسّين لإخراج المسالمين منها؟ وهل كان الهدف من خلق مناخٍ أمنيٍ متوتر، يُنذر بتفاقم الإشتباكات ويهدّد بتمددها الى أماكن أخرى، إيجاد عاملٍ ضاغط  لتشكيل الحكومة قوامه الخوف من فقدان السيطرة الأمنية على البلاد وليس الزامية كبح الإنهيار الإقتصادي والسير بالإصلاحات الموجبة، وبالتالي يصبح الرأي العام أكثر إستجابة وأكثر طواعية للقبول بمعادلة الإستقرار مقابل استمرار الفساد؟ وهل الفشل في قلب المعادلة في الشارع هو ما أدّى الى تأجيل الإستشارات النيابية؟

 

يحمل الذهاب في هذا الإتّجاه عنصريّن يبعثان على القلق، أولهما إجماع الطبقة السياسية على إنقاذ تسوية سياسية ولدت ميتة، عن طريق الإمعان أكثر فأكثر في أسر لبنان والتهديد بالذهاب أكثر فأكثر نحو الإنفجار الأمني والإجتماعي لتغيير المقاربة الدولية والإقليمية للأزمة اللبنانية. والخطورة هنا تكمن في عدم الأخذ بالإشارات التي أطلقتها جامعة الدول العربية وكلام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي حمل تحذيراً واضحاً من انفلات الأمور في لبنان وفي العراق، كذلك عدم الأخذ بالإشارات الأوروبية، ولاسيما الفرنسية على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، بما يتضمّن ذلك من ثقل أوروبي ودولي يتصل بتقديمات سيدر وبمجموعة التقارير التي صدرت عن جهات فرنسية وأوروبية تكلمت بكل صراحة عن حجم تورط السياسيين في تبذير الأموال التي مُنحت للبنان للقيام بإصلاحات بنيويّة جذريّة، أو الإصرار على تصنيف التصريحات التي صدرت عن الإدارة الأميركية، لا سيما وزير الخارجية جورج بامبيو ومساعده لشؤون الشرق الأوسط دايفيد شينكر في خانة التدخّل الدولي في الأزمة اللبنانية وليس في خانة وضع حدّ للنفوذ الإيراني المتمادي في المنطقة ولاسيما في العراق ولبنان، وتجاهل تبِعات التهديدات الإيرانية التي يصرّ قادة ميليشياتها على استعمال لبنان كمنصّة لتوزيع تهديداتها.

 

أما العنصر الآخر فيتمثّل في محاولة كسب الوقت لتجزئة الحركة الإعتراضية وإدخالها في لعبة السلطة عن طريق تمثيلها داخل الحكومة تحت غطاء تمثيل الحراك، وهذا طبعاً ما سيجعل الحركة الإعتراضية جزءاً من سلطة فاسدة طال الإنهيار كلّ مفاصلها، وكان آخر فصوله المبارزة القضائية النيابية في قصر العدل في بعبدا التي شاهدها كل اللبنانيين وكل العالم بأمّ العين، وأظهرت الإنحدار القيّمي والمهني لمؤسستين يعوّل عليهما في بناء الدول وإنقاذ المجتمعات، القضاء بما يرمز إليه من طمأنينة للمواطنين والسلطة التشريعية برمزيتها في المراقبة والمحاسبة.

 

ربما لا يدرك السياسيون بفعل الغطرسة المتجذّرة في عقولهم أنّ منظومة الحوكمة التقليدية في لبنان قد سقطت كمنظومة قيميّة، وأنّ إعادة الإعتبار لها أضحى مستحيلاً بعد انحدار خطابها وتكريس صورة مهشمة لها في وجدان كل اللبنانيين. فعقارب الساعة لن تعود الى الوراء سواء خلت الساحات من المعترضين أم غصّت بهم، واللبنانيون نجحوا في التمرد على قياداتهم بما في ذلك القيادات التي لا زالت قادرة على تجييش جمهورها لاستعداء شركائه في الوطن مخافة أن يخرج عن طاعتها. وبهذا المعنى فإنّ بيان رئاسة الجمهورية بتأجيل الإستشارات النيابية الذي صيغت مفرداته أملاً «بحفظ الكرامات» يعبّر عن انتهاء زمن استحضار الحساسيات الكامنة لعلاج الأزمات وهو صفعة جديّة لكل الطبقة السياسية وإعلان لانفجارها من الداخل وسقوطها.