IMLebanon

لبنان إلى مرآب سوتشي وأستانا

 

 

قد لا يختلف إثنان أنّ كل ما يدور في منطقة الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة إنما تظلّله المفاوضات حول الإتّفاق النووي بين إيران والدول (5+1). وعلى الرغم من صعوبة تلمّس المصالح الأميركية والأوروبية البعيدة المدى التي تقف خلف هذه الضبابية وهذه الهرولة للتوصل إلى اتّفاق، ربما أي إتّفاق مع طهران، فمن السهل القول أنّه بالرغم من التطورات التي شهدتها دول الخليج على الصعد القانونية والإجتماعية والاقتصادية، بمعنى النجاح في السير في ركب العولمة، وبالرغم من المواقف والجهود والتضحيات التي قدّمتها في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف الديني، وبالرغم من الوهن والتفكّك اللذين أصابا دولاً أخرى كلبنان والعراق وسوريا، فإنّ الولايات المتّحدة لا زالت ترى أنّ لدى دول المنطقة قدرات هائلة من الموارد الطبيعية والبشرية، وديناميات كثيرة  تجعلها قادرة على التعافي في غضون سنوات قليلة من الاستقرار. وبهذا المعنى تكتسب إيران كمصدر دائم للتهديد والتطرف مشروعيتها الأميركية، مستندةً إلى تقاطع المصالح والأطماع الغربية في المنطقة مع الحلم الفارسي الإمبراطوري الذي يعيش على حقد مزمن على العرب وإسلام أتى من أرض العرب.

 

يُستدل من جولات جنيف الأخيرة أنّ طهران ابتلعت الضربة المؤلمة التي تلقتها على منشأة «نطنز» النووية، بالرغم من اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها المباشرة عن الهجوم وتنصّل الولايات المتّحدة من إي علم مسبق به. إعتراف طهران بالوصول إلى نسبة تخصيب 55,3% تلقفته الدول الغربية كمادة محفزة للإسراع باتّجاه الإتفاق، وليس كخرق ٍ إضافيٍ ينبغي التصدي له. واطمئنان طهران الى مسار التفاوض أكدّه اعتراف المجلس الوزاري الأمني المصغر لشؤون الأمن والسياسة في حكومة إسرائيل، الذي انعقد يوم الأحد المنصرم، بأنّ الدول الغربية والولايات المتّحدة ليست راغبة فقط بالعودة إلى الاتّفاق النووي السيئ مع إيران، بل سلّمت بالخروقات الإيرانية له، وبالموافقة على دفع تعويضات لها عن الخسائر التي لحقت بها جراء انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق. التسويق الإضافي للقدرات النووية الإيرانية والذي يُراد منه التسويق للإتّفاق تولاه كلّ من «معهد إنتل لاب للأبحاث» و«معهد العلوم والأمن الدولي» ومقره واشنطن، بنشرهما صوراً لمجمّع «بارشين» النووي في إيران والإضافات التي حصلت في نطاقه والأنشطة المشبوهة التي يقوم بها.

 

الولايات المتّحدة المنزعجة من التشويش الإسرائيلي على سير المفاوضات أكّدت أنّ لا خوف على أمن إسرائيل، وأنّ طهران لن تمتلك سلاحاً نووياً، بمعنى آخر إنّ المشروع الصاروخي الإيراني كما الميليشيات الشيعية ليستا جزءاً من الاتّفاق، وهما مستمران برعاية أميركية لانتفاء البدائل التي تُبقي على الجبهات المفتوحة من اليمن إلى سوريا. وبالتالي فإنّ وظيفة  الصواريخ البالستية واستمرار المعارك حول مأرب، والإبقاء على «خزان صافر» كقنبلة موقوتة في البحر الأحمر، تتقدّم في الحسابات الأميركية على مبادرة المملكة العربية السعودية لإنهاء الحرب في اليمن وعلى المخاوف الإسرائيلية، وإنّ على تل أبيب وطهران أن تتعايشا ضمن الشروط والضوابط الوظيفية التي تحددها واشنطن.

 

عامل آخر يوحي بالرغبة الأميركية في تمديد الوضع القائم، هو غياب أي موقفٍ ذي قيمة، أميركي أو غربي، حول شرعية الانتخابات الرئاسية في سوريا، التي حُدّد تاريخها في العشرين من الشهر المقبل للسوريين غير المقيمين، وفي السادس والعشرين منه للسوريين المقيمين، ومصير العملية السياسية والقرار الدولي 2254. فهل يمكن قراءة ذلك من موقع طمأنة موسكو التي أبلت بلاءً جيداً حتى الآن في ضمان أمن إسرائيل، والرهان على استمرارية دورها في دفع الأسد إلى توقيع إتّفاق سلام مع إسرائيل وإلزام لبنان به والتعهد بإنهاء الدور العسكري لحزب الله في لبنان،  كما ورد في حديث السفير Fred Hof لمجلة Newlines magazine في السابع من الشهر الحالي.

 

على المستوى اللبناني أضافت مجريات الأسبوع الماضي أكثر من إشارة للدولة المسطحة القائمة في لبنان، التي تبارى فيها رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي في تقديم صورة ناصعة للإمتثال في اللوحة الإقليمية المنقسمة حول دور طهران في المنطقة. زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية «دايفيد هايل» الذي لم يأتِ بجديد، والذي اتّخذ من موضوع الحكومة غطاءً  لموضوع ترسيم الحدود البحرية، أسقطت آخر مظاهر الاحترام وأي قيمة أو اعتبار يمكن أن يدّعيه أحد في جمهورية العجز والفشل والفساد. لم يكن الزائر الأميركي بحاجة لمساعدة ليتبيّن وبشكل واضح ما يقف وراء حسابات الرئيس ميشال عون الذي تراجع عن دعم موقف وفده المفاوض دون تحقيق أي ثمن، بعد أن أعلن أكثر من مرة أنّ ما يطرحه الوفد اللبناني هو حق لا يمكن التفريط به، ووصل به الأمر إلى تخوين كلّ من يتنازل عن خط النقطة 29 كمنطلق لحدود التفاوض مع إسرائيل.  فلا عاد الجانب الإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات ولا قدّم هايل أي تعهدات أميركية بذلك.

 

وقف حزب الله خلف الرئيس نبيه بري عندما أعلن عن الإتّفاق الإطار، وصمت الحزب عندما إنبرى الرئيس عون لرفع سقف التفاوض، بل أجّج بصمته الصراع بين الرئيس بري والرئيس عون الذي ما لبث أن تراجع عن موقفه، ليؤكّد أنّ ورقة التفاوض في جيبه وحده إلى جانب ورقة تشكيل الحكومة يتصرّف بهما كما يشاء في الوقت المناسب. أيقن هايل أنّ لا رئاسة جمهورية في لبنان ولا رئاسة مجلس نيابي ولا حكومة طبعاً، وليس هناك شخصيات يعتدّ بها في دولة يديرها حزب الله دون عناء، بل يتقاتل أركانها على كسب وده، ليس قناعة بقضية يحملها بل لإشباع جوع متأصل. وتحت سقف إدارة حزب الله للحياة السياسية يتوقف سقف قرارات رئيس الجمهورية عند مستقبل جبران باسيل مهما بلغت الضحيات، ويتوقف قرار من تبقّى عند سيف العقوبات المسلطة على رأسه ورأس حاشيته. وفي ظلّ إنهيار وتلاشي المؤسسات السياسية، ينساب سقوط كل الهرمية الإدارية ووظائف ومهام المؤسسات دون استثناء. قد لا توازي صفاقة مطاردات واقتحامات القاضية غادة عون لمؤسسة ميشال مكتف على محاور الرابية، وعجز الأجهزة صاحبة الصلاحية عن ردعها، والموقف المخجل لوزيرة العدل وعدم قدرتها على وقف المهزلة، سوى دعوة بعض رموز الفساد وأثرياء الحرب وما بعد الحرب اللبنانيين للثورة أو دعوة الجيش لتعليق الدستور وتسلم السلطة.

 

ومع اكتمال مشهد السقوط الدولتي الذي تجلّى في مسألتيّ ترسيم الحدود وتشكيل الحكومة والسقوط المؤسساتي الذي أنجزته السلطة القضائية بامتياز، تكتمل عناصر دخول لبنان إلى جانب سوريا مرآب الدول المتوقفة عن العمل. وليس استدعاء موسكو للسياسيين اللبنانيين سوى إحالة اميركية وغربية لدولة أُسقطت من الحساب ومن دائرة الاهتمام، ومحاكاة لنموذجي مباحثات آستانا وسوتشي اللتين لم تكون سوى مرآباً لسوريا الدولة التي توقفت عن العمل إلى أجل غير مسمّى.