IMLebanon

غاز… غزة… الغازيَّة!

 

لا أفق زمنياً للمهمة التي أخذها لبنان على عاتقه، أي فتح «نصف حرب» أو «ميني حرب»، دعماً لغزة. وكذلك، لا تقديرات دقيقة للأكلاف التي سيتكبدها في هذه المواجهة، خصوصاً إذا طال أمد الحرب، كما هو مرجّح، وإذا انفجرت على نطاق واسع، كما هو غير مستبعد.

كثيرون يسألون: هل جهّز لبنان نفسه بخطة مدروسة لمواجهة أي حرب شاملة قد تنطلق من دائرة الجنوب الصغيرة نحو مناطق لبنانية مختلفة؟ وهل أجرى المعنيون حسابات دقيقة لحجم الخسائر إذا طال أمد الحرب أو اتّسعَ نطاقها أو تحقق الاحتمالان معاً، أم انّ هؤلاء يتركون الأمر للحظ والمجهول على غرار تعاطيهم مع كل الملفات الأخرى في البلد؟

 

في المؤتمر الوزاري الاقتصادي الذي انعقد في القاهرة، قبل أيام، قدّر وزير الاقتصاد أمين سلام خسائر لبنان منذ اندلاع الحرب في غزة بنحو 1.2 مليار دولار، نتيجة تدمير أجزاء من القرى والبنى التحتية وإتلاف بساتين وتعطيل الحياة اليومية في الجنوب. ويُضاف إلى ذلك قطع «الأونروا» مساعداتها عن الفلسطينيين المقيمين في لبنان، والذين تقدّر الأمم المتحدة عددهم بربع مليون (الرقم الحقيقي يفوق الـ500 ألف على الأرجح). ويقول سلام: إذا انفجرت الحرب الشاملة، فسيعود لبنان إلى العصر الحجري.

 

المثير أنّ لبنان الرسمي الذي ينطق بهذه التقديرات ويطلق الهواجس المرعبة لما ستؤدي إليه الحرب، هو نفسه يقول: لن نوقف «حربنا الصغيرة» التي أطلقناها في الجنوب إلا عندما تتوقف الحرب في غزة. وهذا يعني أنّ الحكومة تضع لبنان في شدق التنين، حيث لا قدرة له على النجاة، ولا تريد سحبه وإنقاذه قبل فوات الأوان.

 

في سوريا، حسابات دقيقة دفعت الحكومة إلى النأي بنفسها عن حرب غزة. وفي العراق هناك قرار بتجنّب استفزاز الأميركيين. أما لبنان فينزلق انتحارياً، من دون حساب. وفي النهاية، عندما تقع الكارثة، لن يفتح أحد جبهته مع إسرائيل لتخفيف الضغط عن لبنان كما هو يفعل اليوم لتخفيف الضغط عن غزة. وحتى غزة ذاتها شارَفت على أن تصبح أرضاً محروقة، هجرها نصف أهلها، والباقون لا منازل لهم.

 

في العام 2006، كانت الحكومة اللبنانية تحظى بتغطية عربية ودولية كاملة. ولذلك، حصل لبنان على الكثير من المساعدات التي ساعدته على تجاوز كوارث حرب تموز، ولو على مدى سنوات. لكنه، بدءاً من العام 2016، دخل في مرحلة الضغوط والعقوبات الدولية الشرسة، لأسباب سياسية. وانطلق مسار الإفلاس فعلاً في السنوات اللاحقة. وما يزال لبنان اليوم تحت الحصار بهدف الضغط وتغيير الطبقة السياسية. وهذا ما أودى بالبلد إلى الإفلاس.

 

وكل ما يفعله لبنان الرسمي اليوم هو التَملّق للخليجيين العرب وإيران والولايات المتحدة والأوروبيين كي يمنحوا الطبقة الحاكمة ما تحتاجه من تغطية سياسية ومساعدات، على رغم الفساد الذي لا تنوي اقتلاعه. ولأنّ أحداً لم يتجاوب، فالمليارات التي جرى نهبها يُراد تدفيعها للمودعين، وتحديداً للفئة التي لا علاقة لها بالفساد، لأنّ الفاسدين ابتكروا الأساليب لإنقاذ أنفسهم وإغراق الآخرين، بالتعاون والتنسيق مع قوى السلطة.

 

وهذه الدولة، التي تبحث عن الخدَع لإمرار عمليات النهب وتبرئة ذمة الناهبين، هي نفسها تقول: «فلتكن الحرب مع إسرائيل». وهذا بديهي، لأنها اعتادت أن تُقامر في آن معاً بالبلد وأمنه وناسه وأمواله ولا يرف لها جفن في أي حال، ولا تتورّع عن التباهي بالقول إنها غير جاهزة إطلاقاً للحرب. حتى إن بعض الأبنية السكنية تنهار عندنا من تلقاء نفسها، وقبل أن تمر قربها الصواريخ المعادية.

 

في الجنوب، ثمينة جداً هي الخسائر بالأرواح التي زُهِقت حتى اليوم، وفادحة هي الخسائر المادية المرئية. ولكن، كيف السبيل إلى احتساب الخسائر غير المنظورة؟ فماذا عن المليارات الضائعة نتيجة تعطيل السياحة لشهور، والمليارات الأخرى الضائعة بسبب الشلل في قطاعات المال والتجارة والصناعة والزراعة، وطبعاً، المليارات التي كان يمكن أن يحصل عليها لبنان من المؤسسات والدول المانحة لو اختار العقل؟

 

بل، ماذا عن لبنان الذي احتفل قبل أكثر من عامين بأنه صار بلداً نفطياً، ولكن أقلعَ قطار الغاز في إسرائيل شرقاً وغرباً، وبقي حلم اللبنانيين بالغاز مجرد سراب؟

 

لقد كانت هذه النتيجة متوقعة، لأنّ الشركات المكلفة بالاستكشاف والحفر لها اعتباراتها. وهذه الشركات التي «لم تعثر» على كميات من الغاز كافية تجاريّاً، في البلوكين 4 و9، نأت بنفسها عن استكشاف البلوكين 8 و10. واللبيب من الإشارة يفهم.

 

لبنان ينزلق تدريجاً في مسار الخسائر، بعلمٍ من حكومته أو جهل منها. وفي تشرين الأول الفائت، كانت هواجس اللبنانيين منصبّة على غزة، واليوم تقدمت إلى الغازية، وهي تقترب أكثر فأكثر.

ومن سوء حظ لبنان أنّ سلطته التي تُطلق التحديات بخوض الحروب، تعجز عن دفع 100 دولار للمودعين من الجنى الشريف لأعمارهم، وتطلق الأوهام التي هبطت من 500 ألف دولار إلى 100 ألف… سراب!