IMLebanon

تسوية الجنوب: الشيطان لا يكمن في التفاصيل

 

 

هناك ملامح واضحة لتسوية سياسية يجري تحضيرها، ركيزتها الجنوب، ولها انعكاساتها على الملف السياسي الداخلي. لكن أحداً لا يجزم متى موعد إبرام هذه الصفقة، لا الإسرائيليين ولا «حزب الله» ولا هوكشتاين ورفاقه الوسطاء. وحتى ذلك الحين، نار الجنوب ستستمر في حجم «مدروس» لدى الجانبين.

عند الإسرائيليين مُبررات كافية لعدم تفجير حرب واسعة مع لبنان حالياً. إنهم يتجنّبون استثارة غضبٍ إيراني عارم يشغلهم عن عملية رفح ويربك إدارة الرئيس جو بايدن. فـ»التخلص» من غزة هو الأولوية. أما الانزلاق إلى اشتباك مباشر مع إيران وحلفائها في الشمال فسيصبح ممكناً في أي وقت، ولكن بعد الانتهاء من القطاع.

الأميركيون يضغطون حالياً بكل ثقلهم لتعميم مناخ تسويات سياسية في الإقليم، من غزة إلى جنوب لبنان. ومع اقتراب انتخاباتهم الرئاسية، لا يريد الرئيس جو بايدن اشتعال حروب كبيرة في الشرق الأوسط تنعكس عليه سلباً، إذ سيكون مضطراً إلى مجاراة نتنياهو في حرب رفح التي سيتم فيها حتماً ارتكاب فظائع غير مسبوقة. ويقرأ القريبون من بايدن بجدية انتفاضة الجامعات الأميركية، رفضاً للمجازر، ويعتقدون أنها قد تؤسّس لموجة يمكن أن يكون لها وزنها في صناديق الاقتراع، في الخريف المقبل.
عملياً، بايدن لم يقصّر في شيء تجاه إسرائيل، وهو شريكها في حرب غزة. ولكنه يتجنّب «تلويث» صورته بالانتهاكات الإنسانية. ويوحي نتنياهو بأنه يتفهّم الرئيس الأميركي ويتجنّب إحراجه. لكنه في الواقع يدفع الأميركيين بشكل متدرّج إلى أن يكونوا شركاءه في اقتحام رفح، عندما تنضج اللحظة المناسبة لهذه الخطوة. وإذا لم تسمح الظروف بتنفيذ العملية في موعد قريب، فهو سينتظر انتهاء ولاية بايدن وعودة دونالد ترامب الذي لم يقل «لا» لنتنياهو في أي يوم خلال ولايته السابقة. وفي الأثناء، يمكن تحرير ما أمكن من الرهائن لتخفيف الضغط الذي يمارسه الأهالي على حكومته.
إذاً، وضع رفح عالق حالياً في منطقة رمادية، لكن التحضيرات للاجتياح تكتمل عناصرها يوماً بعد يوم. وارتباطاً بهذا الوضع، يبقى الجنوب اللبناني عالقاً أيضاً. وحتى إشعار آخر، لا مصلحة لأيّ من الطرفين المعنيين هنا في الانزلاق إلى تفجير كبير، وكلاهما يفضّلان تحقيق الأهداف بالتسوية السياسية لا بالنار: إسرائيل تريد ضمان حدودها إلى عمق معيّن على الحدود الشمالية، وتأمين مستوطناتها ومنشآتها من دون أن تدفع أثماناً لذلك، فيما يريد «الحزب» فرض حضوره كلاعب أساسي في الجنوب، واستطراداً في الداخل اللبناني. وما يفعله هوكشتاين والفرنسيون حالياً هو إيجاد الصيغة السحرية التي توفّر لإسرائيل و»حزب الله» الحد الأدنى من هذه المطالب.

ويتردد في بعض الأوساط أن الخطوط العريضة للتسوية باتت جاهزة ومقبولة لدى الطرفين، ولو أن الارتباط بين الجنوب وحرب غزة ما زال قائماً. فـ»حزب الله» الملتزم «وحدة الجبهات»، بالتنسيق مع إيران، لن يترك «حماس» وحيدة في المواجهة.
كما يطمح الإسرائيليون إلى تطوير الاتفاق الموعود، والانتقال إلى «اليوم التالي» في الجنوب، أي ترسيم الحدود البرية، حيث تُطرح صيغة موقتة لحل مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي من الغجر، في انتظار الحل النهائي الذي يعني سوريا أيضاً.
وأما في المسألة المتعلقة بوجود «حزب الله» في الجنوب، فالنقاش يدور حول صيغة توفّق ما بين إصرار «حزب الله» على التمسك بوجوده في المنطقة، وإصرار إسرائيل على انسحابه إلى ما وراء الليطاني، وفق منطوق القرار 1701. وقد قطع هذا النقاش شوطاً مهماً. ويقال إن الصيغة المحتمل التوصل إليها ربما تقضي بخلق مناطق أمنية عدة في الجنوب، يكون في كل منها حضور معيّن للحزب أو لسلاحه.
العارفون يقولون إن مناخات التسوية جدية أكثر من أي يوم مضى. ولكن، خلافاً لمقولة «الشيطان يكمن في التفاصيل»، فإنّ الاتفاق على التفاصيل الإجرائية في الجنوب، أي شؤون الأمن، لا يبدو هو العقدة الحقيقية، بل الخلفيات والأثمان والمكاسب السياسية الكامنة وراء التسوية الموعودة.
فنتنياهو يمارس لعبة تقطيع الوقت، على نار خفيفة، في غزة والجنوب اللبناني، تاركاً للوسطاء الأميركيين والأوروبيين والعرب أن يقدموا له الخدمات السياسية على طبق من فضة، فيما «حزب الله» يرفض الخروج من الحرب خاسراً، لا عسكرياً في الجنوب ولا سياسياً في الداخل اللبناني.