IMLebanon

التراكمان المتعاكسان

 

 

واهم من يعتقد أن الأمور في لبنان قد استوت باتجاه وطني واحد مُتفق عليه بين كافة الأطراف اللبنانية المختلفة، وواهم أكثر من يعتقد أن محور المُمانعة “الثنائي” قد وصل لقناعة، بعد كل الهزائم الذي مُنيَ بها والدمار الذي جلبه إلى لبنان، أن المسار الأفضل لجميع فئات الشعب اللبناني، هو مسار بناء دولة المؤسسات وثقافة المواطنية، بدل تحصين دويلته وثقافة الزبائنية لدى قواعده. ومغشوش جداً من يعتقد أن محور المُمانعة الذي تعدّلت قيادته من سبعينات القرن الماضي قد يصل يوماً إلى التخلّي عن مشروعه الدائم القائم على تقويض الدولة اللبنانية، لأنه يعلم تماماً أن أيديولوجيته تذهب إلى الموت بحال تراجعه عن ذلك، ولذلك يستمرّ بوضع تكتيكاته حسب الظروف الإقليمية والداخلية، حيث تهمد خططه حيناً وتنتفض أحياناً أخرى عند تأمين الدعم والتمويل لأعماله غير القانونية، فعندها يعود ليُراكم الركائز الداعمة لنفوذه، مستغلاً الفوارق والتباينات وإثارة الفتن والنعرات وصغار النفوس. وهكذا، فالمرحلة الحالية في لبنان، هي كناية عن تسابق بين تراكمين متعاكسين تماماً، لا يلتقيان أبداً على مسار واحد، ولقاؤهما الوحيد هو عند التصادم وجهاً لوجه بعد اكتمال تراكمهما، وما الرهان إلّا على الوقت، فتجميع النقاط.

 

 

ولأن المعركة السياسية في لبنان هي بالربح بالنقاط، وليس بالضربة القاضية كما حدث في سوريا، فعلى المسؤولين الجدد القادمين من خارج الأحزاب اللبنانية إلى مسؤولية إدارة الدولة بدءاً برئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة المُكلّف نواف سلام، الانتباه إلى أن النيات الصافية والإيجابية التي يتعاطون بها مع جميع الأطراف، قد تُصبح عرضةً للاستغلال من قبل محور المُمانعة، الخبير بهذا النوع من الابتزاز، ليعمل مُجدّداً على إعادة بناء قوته ونفوذه وتأثيره بدءاً بعملية تشكيل الحكومة وبشكلها وبيانها، ليأخذ البلاد إن نجح بمسعاه إلى الخراب مجدّداً، وإلى ضياع الفرصة الجديدة التي فُتحت أمام اللبنانيين مع انتخاب رئيس جديد للبلاد وتسمية رئيس حكومة من خارج الطينة التي حكمت سابقاً.

 

 

 

تلقّى “حزب اللّه” ومحوره الإقليمي ضربات قاسية في جميع الساحات الواقعة تحت سيطرته، منها ما كان حاسماً وجذرياً، ومنها ما كان جزئياً لكن مُدمِّراً إلى حد كبير، ما دفعه إلى الرضوخ أمام اتفاقات وقف النار المُذلّة لجبهته، بهدف وقف المسلسل الميداني الانهزامي التراكمي، وهذا الواقع الذي استجدّ انعكس تحرّراً للبنانيين من القبضة الإيرانية الغليظة والمُستغلّة، فتمّ انتخاب رئيس جمهورية جديد خارج عن سيطرة هذا المحور للمرّة الأولى منذ فترة طويلة، كما تمّت تسمية رئيس حكومة جديد خارج أيضاً عن التسويات والمحاصصات التي كانت تسري بين الأطراف المُغطّية لأعمال الدويلة، وما زالت الأمور تمضي بالاتجاه الذي لا يُناسب “حزب اللّه”، ولكنه بخبثه المعهود امتنع عن الجلوس على كرسي المعارضة، ودخل في مفاوضات الشراكة مع الرؤساء الجدد، منطلقاً من منطق المناورة الآنية معهم، لتحقيق أهداف عديدة، أولها، وقف المسار التراكمي الانهزامي السياسي له، بعد الانهزام العسكري، وثانيها، لربح الوقت لعلّه تحلّ ظروف إقليمية ودولية جديدة تسمح لمرجعيته في طهران بالمفاوضة مع الإدارة الأميركية الجديدة. وثالثهما، تحصيل بعض الأموال للصناديق التي تُعيد له إمكانية استرجاع القواعد. والخطورة التي تتمثّل بهذه السياسة التراجعية تُشبه إلى حدّ كبير ما حدث سابقاً مع حركة 14 آذار التي وقعت في شباك خداعه، فمع سياسة النيات الحسنة، وعدم تقصّد العزل لأحد، قدّمت تلك الحركة التراجع وراء الآخر، فاستغلّ هو ذلك، وقضمها لقمةً لقمة، حتى بلع كامل الوجبة، فكان له تراكم تصاعدي وكان لها تراكم تراجعي. ويُحاول “حزب اللّه” مجدّداً التعاطي مع المرحلة المقبلة بالخبث ذاته، لأنه يُدرك أنه لن يكون هناك أبداً مسار تشاركي له مع الطرف المقبل لبناء دولة المؤسسات، فتقدّم مسار دولة المؤسسات انهزام له. بالطبع، تتشابه الظروف بين البارحة واليوم بطبيعة المواجهة بين الاتجاهين المتعاكسين، ولكن الفرق كل الفرق هو بين طبيعة الطرف الذي حلّ بمواجهة “حزب اللّه”، فـ “القوات اللبنانية”، التي تُمثّل العمود الفقري للمعارضة حالياً، هي غير الأطراف التي حملت هذه المسؤولية في الماضي.

 

 

 

إنه تغيير في الثقافات وفي الفكر، وتغيير بطيء تدرّجي، هذا هو التراكم بين الاتجاهين، وقد سمّى هذا النوع من المسارات، المؤرّخ، فرنان بردويل بـ “تاريخ المدى الطويل” وهو تغيير في كل مجالات الحياة وطبيعتها، وهو تغيير في الذهنية والنظرة والعقلية، إنه تغيير في الهويّة، ولذا سيكون سباقاً تراكمياً معاكساً لبعضه البعض، أي سيكون سباقاً بين هويّتين، وليس بين نيل للحصص وللامتيازات. والفخ الذي سيعمل له محور الممانعة هو بدفع القطاعات والفئات الشعبية للبدء باكراً بمعارك الحصول على الحقوق، قبل الحصول على الإدارة والإصلاح والاستقرار السياسي. وهذا الأمر سيكون مقتلاً للفرصة الجديدة التي فُتحت أمام اللبنانيين، لأن الطابع المطلبي، وإن كان محقاً، فإن أتى قبل تثبيت الطابع المؤسساتي المُستدام، فسيكون العاصفة التي ستأخذ المؤسسات والمطالب معاً بمهبّ الرياح.

 

 

 

المرحلة هي مرحلة مواجهة بين تراكمين، وعلى اللبنانيين الإدراك، بأي تراكم سيضعون قدراتهم.