IMLebanon

عن رجال الدولة!

 

لم يسمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد ساعاتٍ قليلة من إعادة إنتخابه وتجديد الثقة لبقائه في قصر «الإليزيه» لخمس سنواتٍ إضافيّة، بأن يتعرّض مناصروه بأي إهانة لخصمه اللدود الزعيمة اليمينيّة المتطرفة مارين لوبن التي زاحمته للمرة الثانيّة في نهائيّات الانتخابات الرئاسيّة، رغم أن المناصرين قد إحتشدوا بالآلاف في ساحة برج إيفل في قلب باريس.

 

طلب الرئيس المنتخب من داعميه التحلي بالهدوء وتوجه بكلمة خاصة إلى أولئك الذين صوتوا ضده، وحتى إلى الذين لم يصوتوا، متعهداً بأن يكون رئيساً لجميع الفرنسيين دون إستثناء، مؤشراً بذلك إلى أن صفحة المعارك الإنتخابيّة الساخنة قد إنطوت وأن مسيرة العمل على إعادة توحيد فرنسا وإخراجها من مفاعيل الإنقسامات السياسيّة السلبيّة قد بدأت للتو وأن المرحلة المقبلة تتطلب رص الصفوف والاستمرار في مواجهة التحديات الكبرى في السياسة الخارجيّة والسياسات المحليّة.

 

لم يسمح ماكرون لمشاعره الشخصيّة أن تتغلب على خطابه السياسي بعد دقائق من إعلان الفوز في إستحقاق ديمقراطي هام ومفصلي في مصير فرنسا وأوروبا رغم نشوة الإنتصار. ولم يسمح للأقاويل التي بُنيت على فكرة تعتبر أن فوزه كان رفضاً لخصمه وكرهاً لها وليس رغبة حقيقيّة بتجديد ولايته الرئاسيّة. إستجمع نفسه، وترفّع عن كل تلك الحسابات الضيقة والمقاربات الفئويّة وخاطب الفرنسيين جميعاً دون إستثناء.

 

يبقى طبعاً أن المسؤوليّة الملقاة على الرئيس المجددة ولايته أن يتابع رؤيته لتوحيد فرنسا وإبعادها عن سياسات اليمين الراديكالي ذلك أن حجم الأصوات الذي نالته لوبن، حتى لو لم يكن كافياً ليقودها إلى «الإليزيه»، إلا أنه يعكس مزاجاً متغيّراً في الشارع الفرنسي، وفي الشارع الأوروبي كذلك لأن المعركة مع اليمين المتطرف تنتقل من عاصمة أوروبيّة إلى أخرى، وهي التيارات التي ترفع شعاراتٍ خطيرة تبدأ بالاسلاموفوبيا ولا تنتهي بالتعرّض للمهاجرين ورفض إستقبالهم في القارة العجوز.

 

المعركة الرئاسيّة الفرنسيّة، للمرة الثانية على التوالي، تكون بين شخصيتين ينتميان إلى معسكرين متناقضين تماماً، وذلك على خلاف بعض المحطات الإنتخابيّة السابقة حيث كان الصراع يتم بين المعتدلين. إن تحوّل المعركة الرئاسيّة بين المعتدلين والمتطرفين يعكس تحوّلاً ملحوظاً وعميقاً في المسار الفرنسي خصوصاً والأوروبي عموماً.

 

لقد أنقذ فوز ماكرون المشروع الأوروبي برمته، وما برقيات التهنئة السريعة التي تلقاها الرئيس المنتخب من قادة أوروبا إلا لتعكس إرتياحهم لفوزه المتجدد، ذلك أن الأزمات التي تشهدها القارة بعضها يحمل الصفة الوجوديّة. أوروبا، كمشروع وحدوي ناهز عمره ما يزيد عن نصف قرن، مهددة جديّاً، فالتحديات الخارجيّة والداخليّة آخذة في التنامي التدريجي.

 

فبعد الخروج البريطاني المدوي من الاتحاد («بريكست») وما تركه من تداعيات سياسيّة وإقتصاديّة كبرى، إنطلقت الحرب الروسيّة على أوكرانيا فعكست مستوى التحدي الدفاعي والأمني الذي تعاني منه القارة برمتها، كما عكست الحاجة إلى البحث عن خيارات استراتيجيّة جديدة خارج الإطار الدفاعي التقليدي الذي يشكله حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يدور في الفلك الأميركي أولاً وأخيراً.

 

أن يكون الإنسان مسؤولاً في موقع معيّن فهذا يتطلب الكثير من الحكمة والمسؤوليّة والترفع، وأن يُصنّف المسؤول إيّاه بصفة «رجل الدولة» (بالإذن من الحركات النسويّة فالتسمية التقليديّة لا تلغي دورهن)، فهذا يتطلب المزيد من الصفات الأخلاقيّة والإنسانيّة قبل تحديد الصفات السياسيّة والقياديّة والإداريّة والتنظيميّة.

 

رجل الدولة هو ذاك المسؤول القادر على الارتقاء بموقعه لخدمة شعبه دون أن يطلب لنفسه شيئاً أو أن يغرق وحاشيته في الفساد المستشري أو أن يلهث خلف مصالحه دون أن ينظر إلى مصالح المواطنين. هل ذكركم هذا الكلام بأحدهم؟