IMLebanon

سباق الشارع والطاولة

تفاصيل المساومات التي رافقت شروط «الآذاريين» (أقطاب وأحزاب 8 و14) للمشاركة بطاولة الحوار اللبناني، لا تترك شكًا في أن مشكلات لبنان بأكملها تنحصر في انتخاب رئيس للجمهورية.

وشروط «الآذاريين» لحضور جلسة عادية لمجلس الوزراء اللبناني توحي بأن ترقية طاقم من الضباط المحسوبين على هذه الجهة السياسية أو تلك، كافٍ، بحد ذاته، لأن تستقيم أمور لبنان ويعود، كما بشر البعض عقب استقلاله عن فرنسا، «سويسرا الشرق» (مع ضرورة الاعتذار، اليوم، لسويسرا الغرب).

لافت أن تتواصل مساومات المحاصصة السياسية والطائفية عشية انعقاد طاولة حوار «الآذاريين» فيما الشارع اللبناني يعيش أقصى درجات الغليان تجاه تصرفاتهم التي أوصلت لبنان إلى شغور رئاسي وشلل حكومي وتعطيل برلماني.. مع ذلك يمكن اعتبارها مستغربة لسببين رئيسيين؛ أولهما تنكر المتحاورين لحق الحراك المدني، المكتسب شعبيًا، في المشاركة في الحوار، وثانيهما تغاضيهم عن الفجوة السياسية المتسعة باطراد بين جيلهم – جيل الحرب الأهلية – وجيل الحراك المدني الشبابي. ويكفي لتبيانها مقارنة متوسط أعمار أقطاب الحوار بمتوسط أعمار شباب الحراك المدني، ناهيك بطروحاتهم.

بعد كل ما جرى ويجري في شوارع بيروت كان مستغربًا أن لا تعلن جهة «آذارية» واحدة عن تبنيها لبعض طروحات الحراك المدني، خصوصًا تلك التي تعتبر بديهية في دول العالم الأخرى والدفاع عنها على طاولة الحوار – علمًا بأن زعيم التيار العوني اتهم شبان الحراك المدني بـ«سرقة» شعارات تياره الإصلاحية والمفترض فيه أن «يسترد» ملكيتها على طاولة الحوار. رغم ذلك لم تخرج مشاركة العونيين في الحوار عن إطار هاجسهم المزمن: احتلال قصر بعبدا إما بانتخاب شعبي مباشر للجنرال ميشال عون أو بتعديل لقانون الانتخابات يتيح لمجلس نيابي جديد نقله إلى بعبدا.

إذا كان هاجس الرئاسة وراء كل تصرفات التيار العوني فما لا يمكن تبريره تفويت منافسة على زعامة الموارنة، حزب القوات اللبنانية، فرصة تبني بعض مطالب الشارع المحقة عوض مقاطعة الحوار بأكمله.

مع ذلك، وكي لا تصح بالمتحاورين مقولة «الناس بالناس والقطة بالنفاس»، يتوقع اللبنانيون من طاولة الحوار تجاوبها، من موقع المسؤولية، مع نبض الشارع اللبناني وعلى الأقل كسر تلك الحلقة المفرغة التي يدور لبنان فيها حاليًا، أي دوامة انتخاب رئيس الجمهورية أولاً أو تعديل القانون الانتخابي أولاً، تناقض مواقف «الآذاريين» حيال هاتين الأولويتين لا يبشر بقرار جريء يخرج لبنان من «المستنقع» الغارق فيه. ولكن محاولات الالتفاف المتواصلة حول مطالب الحراك المدني وطروحاته تنبئ بأن قرارات طاولة الحوار لن تتعدى، في أحسن حالاتها، عملية تجميل «كوزميتيكي» للنظام رغم أن لبنان اليوم يخوض سباقًا واضحًا بين «الشارع» و«الطاولة»، سباق لن يجدي نفعًا إن استمرت حالة الفصام بينهما، فلا الشارع قادر على فرض مطالبه على السلطة ولا السلطة قادرة، في وضعها الراهن، على استيعاب مطالبه.

يعلم اللبنانيون تمام العلم أن انتخاب رئيسهم لم يكن يومًا عملية داخلية فحسب. ولأن حروب المنطقة لم تحسم بعد الوضع النهائي لموازين القوى الإقليمية – والدولية من ورائها – فقد يكون تركيز طاولة الحوار على تعديل قانون الانتخابات النيابية والاتفاق على قانون يعتمد التمثيل النسبي أسهل تحقيقًا من حل عقدة الرئاسة المستعصية، وفي الوقت نفسه فرصتهم لإظهار تجاوبهم مع بعض المطالب الإصلاحية للحراك المدني.

وفي هذا السياق حبذا لو تتجاوز طاولة الحوار عصرها وتلحظ، في قانون الانتخاب النسبي، مقعدًا أو أكثر للطائفة المغبونة أكثر من غيرها في لبنان، أي طائفة العلمانيين، بحيث يجري انتخاب ممثليهم خارج قاعدة القيد المذهبي.

لا جدال في أن تركيبة لبنان المذهبية تحول دون خروج طاولة الحوار على توافقية نظامه الديمقراطي، مما يعني أن إصلاح النظام من داخل النظام هو أقصى ما يمكن التوصل إليه دون التسبب بفتنة طائفية. وقد يكون إدراج مقررات طاولة الحوار الإصلاحية في خانة شعار «لا غالب ولا مغلوب» مدخلاً مقبولاً لتحديث النظام ومراعاة توازناته الداخلية في آن واحد.. هذا إن حسنت نيات الجميع.