IMLebanon

السنّة والاستحالة (5) التاريخ والإنكار

أينما كنت هذه الأيام، في كل ندوة تحضرها، سواء كانت فكرية أو اجتماعية عابرة، تسمع عن الأقليات. هي مظلومة عبر التاريخ، وإلا فإنها لم تصبح أقلية. ظلمها التاريخ، ظَلَم طريقة عيشها وإيمانها ومعتقدها. تريد أن تثأر من التاريخ. تعيد كتابته، أو يفعل ذلك الغير لها. أو بكل بساطة تمحو التاريخ. الفرصة مناسبة للبدء بتاريخ جديد: مستقبل لا يراكم على ما مضى. مستقبل يتناسب مع «الظروف السياسية الراهنة»، مستقبل يقرره ميزان القوى القائم.

المشكلة الأكبر هي الأكثرية وكيف تتحول إلى أقليات. تفعل الأصوليات ذلك. «داعش» وأخواته تحاول محو التاريخ بتهديم الآثار. لا يلزمها التاريخ الذي صنعه الناس، بل الصورة التي في ذهنها. الأصول الفقهية أربعة، إثنان منها معطاة إلهياً، أو هكذا يقال، وهما الكتاب والسنة. أما القياس والإجماع فهما ما يصنعهما الناس. الأول يؤدي إلى الرأي واستخداماته، والثاني يتعلق بسعي الناس نحو تكوين تسويات يكون السعي فيها دائماً نحو إجماع من نوع ما. ما كان الإجماع راهناً في أية مرحلة من التاريخ. لكن السعي إليه هو ما اعتُبر حافظاً لوحدة الجماعة، حتى ولو كانت هناك تنازلات عن آراء ومعتقدات اعتبرها أصحابها محقة. اغتيل نصف الدين التقليدي، في سبيل ان يغتال النصف الثاني، وتتحول الأكثرية إلى أقليات، وذلك عن قصد أو غير قصد.

إزاحة البشر من المساهمة في شؤونهم الدينية (وغير الدينية) هو ما يؤدي إلى إزالة إرادتهم، وهو ما يحولهم إلى ما يشبه الأقليات ذات الإرادة المفقودة، وهو ما تنفذه أنظمة الاستبداد دائماً بأن لا يكون للناس إرادة. تعتبر النظريات الأقلوية والأصولية، وما يتفرغ عنها، وممارسات الاستبداد وما يتفرع عنه لدى النخب العلمانية، واحدة في جوهرها. هناك ثأر من التاريخ، بما يوجب إنكاره والقضاء عليه.

في الدين التقليدي، دين الأكثرية، رأي وتسوية وقبول بالاختلاف وخضوع للسياسة، بما يشبه الدين المدني في الولايات المتحدة. السلطان يحكم لا رجال الدين، ومؤسسات السلطة تحكم لا المؤسسة الدينية. يعرف أصحاب الدين التقليدي أن الخلافات نشأت منذ أيام الإسلام الأولى، وأن الوحدة السياسية مطلوبة من أجل الفعالية، وأن الوحدة غير ممكنة إلا بالسعي نحو الإجماع الذي لا يتحقق. والإجماع على تسوية سياسية ليس إجماعاً دينياً. ويعرف أصحاب هذا الدين التقليدي ان الرأي المسبق حتى لو كان فرضياً على صواب، هو أمر يجب التخلي عن بعضه، على الأقل، من أجل الوصول إلى تسويات تجمع. التسوية تجمع، الرأي (المفترض حقيقة ما) يفرق. الإيمان بالمطلق شيء والسياسة شيء آخر. في الدين التقليدي (غير الأصولي، وغير المزاج الرائج) إيمان فردي وسياسة جماعية تمارس من أجل الحفاظ على علاقات سوية في المجتمع. السياسة تجمع وتوحد، والأصوليات تفرق وتمزق المجتمع.

الدستور يحتاج إلى تفسير. والشريعة تحتاج إلى تفسير. كل منهما يتحول إلى رأي بشري سياسي عندما يوضع موضع التنفيذ. والكلام عن الشريعة في الدستور هو في غالب الأحيان ابتزاز سياسي لإحراج أهل السلطة، المهم ليس الدستور وليست الشريعة، وكلاهما معطيان؛ بل المهم هو الرأي والممارسة البشرية، وهما دائماً تفسيرات بشرية، حسب الواقع وحسب المرحلة التاريخية، هذا إذا أبقيت الإرادة البشرية من دون كبت وقمع وقسر. الدين الجديد الأصولي، الذي كان «داعش» وأخواته آخر منتجاته، هو الوجه الآخر للاستبداد وللعقل الأقلوي الذي يرفض التاريخ، وبرفضه التاريخ فإنه يرفض الواقع، لم يكن صدفة أن جماهير الأمة (الأكثرية) عوقبت بسبب الميدان، حيث أظهرت إرادتها، عوقبت بهذا الدين الجديد الأصولي الداعشي في صراعه مع الاستبداد. هو والاستبداد وجهان لعملة واحدة.

تتفتت الأكثرية تحت وطأة الأصولية، الداعشية وغيرها. تصير الأكثرية أقليات. تصير الأكثرية شبحاً بمعنى أنها وجود مجهول المعنى، معدوم المصير، مشوش الوعي، مفتت مدمر. لم يجد الاستبداد أفضل من عدو اسمه أصولية «داعش» كي يكون عدواً من أجل أن يجري استقطاب العالم ضده لمصلحة النظام. لا ندري إذا كان «داعش» مصنوعاً في أروقة مخابرات الدول الكبرى، لكن أنظمة الاستبداد العربي تجد فيه ضالتها، والنخب الثقافية العربية تجد فيه مناسبة للاستمرار في عدم التفكير والتخلص من عقدة الذنب. والقوى الكبرى تجد فيه سبباً لشن حرب عالمية على المنطقة. تجمعت كل الدول الكبرى في المنطقة بحجة محاربة «داعش»، أما الشعوب العربية فهي بين المطرقة والسندان.

مع التفتيت، تحت وطأة هذه الحرب العالمية، لم يعد للمنطقة قوام. انتشر الإحباط، ساد التشكيك بالذات، فقد الناس المعنى والمغزى، لم يعد هناك اتجاه، لا إرادة للناس. هم فقط مشاهدون لسير المعارك. تعودوا على مشاهد الحرب الأهلية التي لا ينتصر فيها أحد، بل يدمّر كل ما على سطح الأرض من بشر وحجر. سفينة في بحر هائج، تتقاذفها الأمواج، ليس فيها بوصلة.

يفترض تعبير الأقليات وجود أكثرية. لم تعد هذه الأكثرية موجودة. حروب أهلية في كل مكان، حتى داخل الذات الفردية. الجميع ضد الجميع. حرب إبادة تمارسها الأمة على نفسها. كثرة عمليات الانتحار مؤشر على ذلك.

ليست السنة مذهباً، كما يحلو التنظير للبعض. هي قوام لهذه الأمة بأقلياتها. مع فقدان القوام يخسر الجميع. تدخل الأقليات في المجهول كما الأكثرية. يحتاج المذهب إلى عقيدة، وما استطاع أحد في التاريخ وضع عقيدة للسنة. اجتهادات فقهاء (ومفكرين وفلاسفة)، نعم. لكنها تراكم تاريخي يرفضه الدين الأصولي الجديد، كما الاستبداد، كما الأقليات. لم يكن صدفة إجماع هؤلاء جميعاً على إنكار التاريخ ورفض التراكم.

وللحديث صلة.