IMLebanon

السنّة والاستحالة (7) انتفاخ الذات

صورة العالم لدى الذات هي أيضاً صورة الذات عن نفسها. الواحدة منهما تعكس الأخرى. عندما تتحول السنّة إلى مذهب، وهذه استحالة، فإن المذهب يعتقد أنه في مواجهة مع العالم ويواجه العالم، ليعلن الخلافة. انتفاخ للذات غير مسبوق.

الأصولية الدينية السنية تتوهم أنها تعطي الله حقه، لكنها في الواقع تعطي الذات أكثر مما تستحق. أوهامها عن الله تعكس أوهامها عن الذات وعن القدرات الذاتية في مواجهة الواقع.

تحوُّل السنة إلى مذهب يلغي التعددية. في ذلك توهم. ترتفع العقيدة إلى مستوى القداسة. القداسة تأتي من الله في نظرهم؛ هي في الحقيقة صفة إنسانية صعدت إلى الله. الله لا يحتاج إلى مكرمات من هذا النوع. المقدسات لا تهبط من أعلى. ترتفع من تحت، من الإنسان.

لم يكن انتفاخ الذات ممكناً لولا انتفاخ المال. هذا أتاح لكثيرين الاعتقاد أو التوهم بأن من الممكن تحويل السنة إلى مذهب، بعد إلغاء التعددية داخل السنة. احتاجوا إلى أعجوبة الإثبات فكان إعجاز النفط، هبة من الله من باطن الأرض. إعجاز النفط أتاح إعجاز المذهب، واحدهما ساعد الثاني على إلغاء التعددية. مع إلغاء التعددية زالت النسبية المعرفية، زالت فكرة اليقين غلبة الظن، سادت المطلقات المعرفية، سيطرت على النسبية المعرفية، سادت التأكيدات. قُسم المؤمنون بين مؤمن وكافر. الكافر ليس منا، مصيره الهداية أو النار. سادت عصمة المذهب، وهي في حقيقة الأمر عصمة القابضين على المذهب. ربما كانت فرقهم متعددة إلا أنهم يقولون الشيء ذاته، ويقاتلون الشعب، لا الطغاة بالأساليب ذاتها. أصلهم واحد.

إعجاز انتفاخ الذات والمال والمذهب أن الله سخر الآخرين كي ينتجوا. مجتمع النفط لا يصدر غيره. لكن المال كثير يحسبونه ثروة. لقاءه يستوردون ما شاؤوا، يستهلكون ما شاؤوا. مع المزيد من الاستهلاك تتفاقم الرغبات. لا تتحرك فيهم إلا الرغبات. يتحول المجتمع إلى استهلاك محض وإلى شلل القدرة على الإنتاج. ينطبق الأمر عينه على المجتمعات غير النفطية عن طريق التحويلات والاستثمارات المالية. بارادايم البلدان المنتجة للنفط يصير البارادايم السائد في البلدان العربية غير المنتجة للنفط. هو البارادايم الأعلى الذي يحتل الوعي السائد، بمعنى أنه البارادايم الذي يريد الكل تطبيقه وإن لم يكن باستطاعتهم ذلك.

لا يدركون أنه في مجتمع الاستهلاك المحض، النفط يستخرجه آخرون «استشاريون»، شركات أجنبية، من خارج المجتمع، كما أن الواردات من السلع تصنعها مجتمعات أخرى. يصير المجتمع النفطي المبهور بالمال النفطي تابعاً للخارج، يدور حول الغير، مستسلماً للغير، خاضعاً لإرادة هذا الغير، حتى ولو لم يقر بذلك. وما أدعى للسخرية من القول إن أوبيك تقرر أسعار النفط. نفط العرب لغير العرب. العرب لهم فتات المائدة.

مع انتفاخ الذات، من دون التعددية الذهنية التي تجعل مستحيلاً صيرورة السنة إلى مذهب، يتوقف العقل عن أداء مهماته. يصير المذهب المنوي إنشاؤه، والذي استقر في «داعش» وأخواته، و «القاعدة» وأخواتها. يصير المذهب إملاءات. وهذه تؤخذ من صحاح البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم؛ تزداد هذه الأحاديث عند الحاجة وعبر التاريخ. يحتاج المجتمع إلى تبريرات جديدة، فيخرج الفقهاء بأحاديث تلبي هذه الحاجات. يتضخم عدد الأحاديث، عبر التاريخ، وتحتاج إلى ضبط وتصنيف لا إلى بحث جدي في صحتها وورودها عند صاحب الحديث. مع كثرة الحديث يتوقف التفكير، تتعطل ملكة العقل، يراكم القديم على القديم، والحديث على القديم، يمنع الجديد إلا إذا انطبق على القديم، أو انطبق عليه القديم، يلغى الجديد، يُعتبر بدعة، والبدعة ذات مصير معروف. تموت الروح، يتلاشى الرأي، تسود الإخباريات. الاتِّباع مبني على الخبر. في الخبر القديم، المزعوم، إنباء عن كل جديد. لا جديد. مجتمع لا يستطيع تجديد نفسه، عقله غير قادر على إعمال الفكر والتجديد. يتحول المجتمع إلى آمرين بالنهي والنهي عن المنكر. كل شيء حلال أو حرام ولا ثالث ورابع وخامس بينهما. التمييز بينهما سهل. وعقوبة الحرام سهلة.

الجديد فقط عند الغير. سخره الله لنا كما سخر النفط. الغير يعمل، الغير ينتج، الغير يصدر، نحن نستهلك. لا شيء يتحرك، إلا أن تتصاعد رغباتنا. سخر الله لنا الغير للعمل ولإنتاج ما يلبي رغباتنا. أكرمنا الله «بالثروة»، بالمال، وابتلى الآخرين، من مجتمعات أخرى، بالعمل. نحن استثناء الجنس البشري، وقد حبانا الله بذلك. وذلك إعجاز آخر.

تعاون مع الأنظمة ذات الشعوب الغفيرة المستفيدة من التحويلات والاستثمارات. تعاون مع الاستبداد كي لا يهتز المركب. مركب المنظومة السياسية العربية. وحين تشب الثورة يجري التآمر عليها. تفعل الثورة المضادة فعلها. وتتحول الشعوب إلى حروب أهلية. ويصير قتل الشعوب مبرراً للحفاظ على الاستقرار لا همّ إذا قتلت الشعوب ودمّرت؛ المهم هو الحفاظ على المنظومة العربية القائمة. حمايتها هي الأهم.

استهلاك محض. أنظمة استبدادية تستهلك البشر. أنظمة أصولية تستهلك الدين. استهلاك السلع يستنزف المال. عقل أجنبي استشاري يزوّد أصحاب المال بالمشاريع التي يجب إقامتها لإبهار الناس. مجتمع مقاولات لا مكان للإنتاج فيه. استهلاك الأبنية يتطلب وقتاً طويلاً نسبياً. لا يُشاد شيء غير الأبنية والطرقات. لا مصانع أو مزارع.

حالة غير مسبوقة تاريخياً. مال كثير وعقل قليل لدى أصحاب النفط. نمط استهلاكي يعمم على الجميع في الدول النفطية وغير النفطية. بذخ بذيء. مع انتهاء النفط، أو سقوط أسعاره إلى الحضيض، نكون قد حققنا لا شيء تقريباً.

لا يدرك أصحاب المال أن التاريخ ليس في صالحهم، وأن المستقبل هو فقط للشعوب المنتجة، وهذه غير عربية. هي مجتمعات الدول التي تصدر إلينا السلع لتلبية الرغبات المتضخمة.

صورة العالم، انتفاخ الذات، نتائج كارثية. استحالة السنة إلى مذهب هو في أساس كل هذا التحول.

لا تتحول السنة، بل هي تصير استحالة. الجذر «حال» ذو معنيين متناقضين أحدهما التحول (الإمكان) ثانيهما الاستحالة (مأزق غير الممكن.

ما نشهده حالياً هو تدمير المجتمعات العربية. تدمير الإسلام التقليدي. نشوء دين جديد. التدمير يلزمه إيديولوجيا. تقوم هذه الإيديولوجيا على مبدأ انتفاخ الذات بالمال والمذهب الواحد.