IMLebanon

سُنّة لبنان ما بعد السعوديّة

 

أن تُصاب طائفة في لبنان بالإحباط، شاكية «تنمّر» طائفة أخرى، أو مجموعة طوائف، فهذه مِن الأدبيّات المألوفة لبنانيّاً. أن تعزو إحباطها إلى دولة خارجيّة، تدعم طائفة غيرها، فهذه مألوفة أيضاً… وتاريخيّة. لكن أن تُحبَط طائفة على يد دولة خارجيّة هي مدعومة مِنها، أو بمعنى آخر محسوبة عليها، فيصل الأمر إلى حدّ إذلال رمزها، علناً وأمام العالم، فهذه ظاهرة مُستجدّة في لبنان.

 

بالحدّ الأدنى غير مألوفة منذ ما بعد «الطائف». هذا ما تفعله السعوديّة هذه الأيّام مع السُنّة في لبنان. ربّما يعترض بعض «الطوباويين» على لغة الشمول هنا، حرصاً على عدم تطييف الخطاب، غير أنّ هذا الحرص كان ليكون في محلّه لو لم نكن في لبنان. جزء مِن أزمة هذا البلد، تاريخيّاً، هو حديث المواربة. الإيحاءات. الطلاسم. الغمز والهمز واللمز. جميل كان هذا الحرص لو لم يكن يؤدّي كلّ مرّة، بعد تراكم، إلى خراب يتلوه خراب. عندما يكون موقع رئاسة مجلس الوزراء للسُنة، بحسب العُرف، وذلك على غرار سائر المواقع الموزّعة طائفيّاً، فهنا كيف يُمكن التملّص مِن هذا الخطاب! إلا اللهم بالعبث.

السعوديّة، التي لطالما قدّمت نفسها على أنّها راعية أهل السُنة في العالم، والتي تصف ملكها بـ«خادم الحرمين» (منذ فهد)… تضع الآن كلّ سُني لبناني (منتم) في حالة ذهول وضياع، وربّما غصّة، نتيجة تعاملها مع سعد الحريري بالطريقة إيّاها. لِمن الشكوى الآن؟ لهذا أصبح مقرّ المفتي في بيروت، على مدى الأيّام الماضية، بمثابة ملجأ لكلّ مَن يحمل سؤال: ما الذي يجري؟ المفتي نفسه لا يعلم. وجوه الطائفة تُطالب بـ«عودة الحريري» أولاً. حالة يصعب معها على أخبث خبيث أن يشمت أو يَسخر. الحديث هنا عن السُنة «المعتدلين» (وأكثرهم كذلك في لبنان). وحده أبو بكر البغدادي، ربّما، سيُجيب لو سُئل: ألم أقل لكم لا تراهنوا على آل سلول؟ قبل الذي حصل أخيراً، أي إذلال السعوديّة للحريري ومؤيّديه، كان هناك مَن يتحدّث عن «إحباط سُنّي»… فكيف هي الحال الآن! اللافت أنّ الحريري، نفسه، كان رفض هذا التعبير، قائلاً: «أريد أن أقول كلمة سريعة، عن موضوع أثير في بعض المداخلات، تحت تسمية لإحباط السُنيّ؛ أهل السُنّة مش محبطين وأنا مسؤول عن كلامي».

بدا مفعماً بالتفاؤل. في الواقع، كان يردّ هنا على بعض نواب كتلته، أحمد فتفت تحديداً، الذي تحدّث عن إحباط في الشارع السُنّي. حصل هذا قبل أقلّ مِن شهر. لكن في خطاب استقالته الكاريكاتوري، الذي أذاعه مُسجّلاً مِن السعوديّة، وفي تعداده لأسباب الاستقالة، قال: «إن حالة الإحباط التي تسود بلادنا (…)». ظهر فتفت، بعد الاستقالة، مِن بين قلّة مِن «المستقبليين» واللبنانيين عموماً، متحمّساً للسعوديّة. كم يبدو هذا المشهد مكشوفاً، وبالتالي سخيفاً!

هناك مَن يتحدّث اليوم، بمقالات ومداخلات، عن أنّ الإحباط في الطائفة سيُطلق العنان للتيارات السلفيّة (الجهاديّة غالباً). سابقاً، كان يُقال إنّ الإحباط، والفراغ على مستوى الهويّة الجماعيّة، دفع بجيل الشباب إلى الانخراط في صفوف «داعش» أو «القاعدة» وما شاكل. ربّما كان هذا يصحّ في المرحلة السابقة، عندما كانت لتلك التنظيمات قوّة جذب عالية، وكان مشروعها صاعداً، أمّا اليوم فالحال اختلف. الشباب يبحثون دوماً عن الصاعد. «الداعشيّة» الحاليّة تلقّت الكثير مِن الصفعات. ظهر أنّها «ليست الحلّ». نزعة الانتماء تبدو أصيلة في الكائن البشري، وإن بنسب متفاوتة، ولهذا ما الذي يبقى للشاب السُني (المنتمي نفسيّاً) في لبنان مِن خيارات؟ «الفرديّة» صعبة في بلاد الطوائف، ومكلفة. ليست في متناول الجميع. يقول عالم نفس شهير: «الانتماء لجماعة يكون وفقاً لإشباع حاجات الأفراد». ويقول آخر: «لكن إذا كان وجود الفرد ضمن الجماعة يفاقم السلبيّة في حياته، ويزيد مِن الضغط عليه، فإنّ رغبته بالانتماء تتضاءل». لا يُمكن لأحد أن يضع نفسه مكان أحد. هي فقط محاولة للفهم. في بلد كلبنان لا مكان لك خارج «الانتماء». العلمانيّون أكثر مَن يعرف هذا. هل على ذلك الشاب أن يصبح شيعيّاً أو درزيّاً أو مسيحيّاً؟ هذا لا يحصل جماعيّاً. يذهب إلى «داعش»؟ هذه انتهى أمرها. لم تعد مغرية. هل يذهب إلى تأسيس جماعات متشدّدة محليّاً؟ هذه جُرّبت وفشلت (الأسير وما شاكل). هل يبقى في تيار محلّي سُنّي تذلّه السعوديّة السُنيّة؟ هذا ثقيل جدّاً. لا يحتمله حرّ. ما فُعِل بالحريري أخيراً، والذي بدأ قبل ذلك مِن خلال حصاره اقتصاديّاً، سيركز في وعي كثيرين ويصبح ذاكرة جماعيّة. قطعاً، لا يتوقع أن تخرج الحشود في مسيرات ضدّ السعوديّة، بل ربّما تُمدَح غداً، إنّما أصبح في القلب شيء مِنها. عيون الطوائف الأخرى هي التي ترسم، إلى حدّ بعيد، السلوك العلني لكلّ طائفة. هذا «كبت لبناني» أصيل. الراجح أنّ الخيارات العدميّة والعبثيّة واللااكتراثيّة هي التي ستتفاعل، شبابيّاً، إلا اللهم في حال «صدمة» إيجابيّة مِن نوع ما. هذا الشائع حاليّاً، في أكثر مِن بلد عربي، بعد أن فشل «الربيع» بإنتاج حياة أفضل. هذا بعض مما ساهمت السعوديّة بجنايته على بلادنا، بل وعلى العالم، وما زالت تفعل.