IMLebanon

سويسرا لدول الشرق الأوسط: مشروعنا الإستقرار والأمن المائي

نجح الفرنسي جون مونيه في جعل تجارة الكونياك وسيلة لتسويق مبادرته لحل معضلة الأمن المستعصية بين فرنسا وألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية. مُبادرة جوهرها إنشاء الكتلة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951 لتكون الشرارة الأولى للتكامل الأوروبي، لنصل بعد ذلك إلى الإتحاد الأوروبي بتركيبته الحالية. نموذج ينطلق منه رئيس الحزب الليبرالي الديموقراطي في مجلس اللوردات البريطاني جون الدردايس خلال مشاركته في منتدى «السلام الأزرق في الشرق الأوسط» في جنيف لتشجيع كل من تركيا والعراق وسوريا ولبنان والأردن على الإستلهام من مونيه، وتحويل المياه إلى أداة للتعاون وتعزيز السلام في منطقة تقع على خط النار.

نجح مونيه أحد الآباء المؤسسين للإتحاد الأوروبي، والذي بدأ العمل في سن مبكرة في شركة والده بتحويل العلاقات التي نسجها مع كبار الشخصيات إلى أرضية من أجل بقاء المجتمعات في أوروبا وتعاونها، وكانت مقولته الخالدة لا سلام في أوروبا، إذا أُعيد تشكيلها على أساس السيادة الوطنية، فالحل بإتحاد فدرالي بين الدول.

إتحاد هو ما تحتاجه دول الشرق الأوسط في نظر اللورد الدردايس، وهي النصيحة التي قدّمها الى المؤتمرين في «منتدى السلام الأزرق» الذي عُقد بتنظيم المنظمة الهندية «Strategic Foresight Group» وجامعة جنيف بالتعاون مع الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون SDC ووزارة الخارجية السويسرية ما بين 8 و9 تشرين الاول، وحضره برلمانيون ووزراء حاليون وسابقون وخبراء في المياه وإعلاميون.

ويقول اللورد الدردايس: «لا سلام إذا بُني على أساس السيادة الوطنية، ودول الشرق الأوسط لا تستطيع تأمين حاجاتها الضخمة منفردة، لذا عليها الإتحاد في جسم فدرالي».

يتفق السفير السويسري ونائب رئيس الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون توماس غريمنغر مع اللورد الدردايس بأنّ مسائل المياه لا تُحلّ بشكل منفرد، وهذا ما يقودنا الى السلام الأزرق، في إشارة إلى المبادرة التي أطلقتها «Strategic Foresight Group» عام 2011 بدعم سويسري وسويدي لتشجيع دول الشرق الأوسط على التعاون لإدارة مواردها المائية المشتركة من خلال تحويل المياه من مصدر للنزاع الى أداة للسلام.

ويُذكّرغريمنغر بتبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي أجندة 2030 للتنمية المستدامة والتي تشمل موضوع المياه، ما يرتّب علينا مسؤولية مشتركة لضمان توفير إدارة مستدامة للمياه والصرف الصحي للجميع.

ويقول: «اليوم يُنظر إلى المياه كسلعة استراتيجية وإنسانية، بات العرض والطلب عليها يرتبط بشكل وثيق باللاجئين والإرهاب والجفاف. لذلك، نحتاج إلى إنشاء آليات لمعالجة الصلات بين المياه والقضايا الإنسانية والإستراتيجية الأخرى، وضمان استدامة إمدادات المياه لتحقيق التنمية».

ويُشدد نائب رئيس الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون على أنّ بلاده ستبقى ملتزمة تسهيل وتعزيز التعاون المائي بين دول الشرق الاوسط. ويقول: «إنّ أجندتنا واضحة للشرق الاوسط …السلام والإستقرار».

بنك تنمية عابر للحدود

إستقرار يرى مستشار وممثل ولي العهد الأردني السابق الأمير الحسن بن طلال، الدكتور حكم العلمي أنّه حجر الأساس لمنطقة غرب وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، مُسلطاً الضوء على العلاقة بين المياه واللاجئين والغذاء والطاقة والآثار المترتبة على عدم وجود إطار إقليمي للنمو الاقتصادي الشامل في المنطقة.

ويقترح الحسن بن طلال الذي يرأس مبادرة «السلام الأزرق» في رسالة عرضها العلمي رؤية شاملة للتعاون تتضمّن وضع نموذج لمشاريع التنمية من خلال التعاون بين القطاعين العام والخاص وبرعاية بنك تنمية عابر للحدود الوطنية يدعم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث يتم تشارُك المخاطر والمكاسب. بنك لن تقتصر مشاريعه على البنية التحتية المادية، بل سيشمل تعزيز التعاون الإقليمي في قضايا المياه والطاقة والبيئة البشرية والتماسك الاجتماعي وتمكين الفقراء.

يتواصل النقاش، ويحذّر المتخصصون في معهد العلوم البيئية في جامعة جنيف بأنّه في عام 2025 يتوقع ألّا يكون لدى 1500 مليون شخص قدرة للحصول على مياه نظيفة بفعل التغيّر المناخي والنمو الديمغرافي.

حتى في تركيا التي تعاني وفرة في المياه نسبياً مقارنة مع جيرانها، يدقّ الدكتور فكرت يوكان، المستشار الخاص لرئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو، ناقوس الخطر، مُتوقعاً أن تعاني بلاده في 2030 من الإجهاد المائي بفعل التقدّم الصناعي وزيادة عدد السكان.

أمّا العراق، الذي سيطرت «داعش» على عدد من سدوده، تعرّض في الوقت عينه في حزيران الماضي إلى جفاف حاد، أُعلنت بموجبه أهوار جنوب الناصرية، مناطق منكوبة، وتفشّى فيها وباء الكواليرا، نتيجة إنخفاض منسوب نهر الفرات، لينجح بعد ذلك العراق في إقناع تركيا إطلاق المياه في الأنهر المغذية لمناطق الأهوار.

مدير المعهد التركي للمياه أحمد ساعتشي يرفض إتهام تركيا باستخدام المياه كسلاح، مُذكّراً بأوجه التعاون مع الجانب العراقي الذي بدأ منذ 1964 وتخلله تشكيل لجان تقنية مشتركة، ولقاءات وزارية وتوقيع اتفاقية الصداقة بين تركيا والعراق، وآخرها توقيع تفاهم بين وزارتي المياه في البلدين في 25 كانون الأول 2014 .

ويشير إلى أنّ تركيا زادت على أثر زيارة نائب الرئيس العراقي أسامة النجيفي الى أنقرة في تموز 2015 ضخ المياه الى نهر الفرات لتلبية حاجات العراق الإنسانية.

آليات التعاون لما بعد 2015

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي آلاليات التي يجب اتباعها لتعزيز التعاون المائي الإقليمي لحقبة ما بعد 2015؟

يقترح بعض المؤتمرين إنشاء منظمة إقليمية وتفويضها حل مشكلة المياه بطريقة تعاونية، في وقت يفضّل البعض الآخر اتباع نهج تدريجي، استناداً الى معايير فنية محددة ومشاريع عملية لتبادل وتنسيق البيانات.

ويدعو الرئيس السابق للبرلمان العراقي الدكتور حاجم الحسني النواب في كل من العراق وتركيا وسوريا والأردن ولبنان إلى بدء تشريع قوانين للتعاون المائي.

ويبقى مستقبل ومهمة منتدى السلام الأزرق في الشرق الأوسط الذي يعتبر بمثابة البنية التحتية الناعمة للحوار، في نظر رئيس المنظمة الهندية صنديب واسكلر، إحداث تغيير إيجابي بمجرد تحسّن الأوضاع السياسية، وإنشاء آلية مؤسساتية كمجلس تعاون من أجل الإدارة المستدامة للموارد المائية، مع أهمية اختيار دول الشرق الأوسط النموذج المؤسساتي الذي يتناسب مع بيئتهم والإستفادة من أفضل تجارب أحواض الأنهار في العالم.

وينوّه واسكلر بالتقدم الذي أحرزه الجانبان العراقي والتركي لتبادل وتنسيق وقياس البيانات حول تدفّق مياه نهر دجلة، والتوجّه لإنشاء محطتين واحدة في تركيا وأخرى في العراق لقياس كمية تدفّق المياه ونوعيتها.

في حالة تركيا، كان هناك حديث على أن تكون في منطقة الجزيرة، لكن بسبب الأوضاع الأمنية يجري البحث عن خيار آخر، أمّا العراق الذي ينوي إنشاء محطة في منطقة فيش خابور تلقّى وعداً من الحكومة السويسرية بتمويل إنشاء المحطة وتدريب الكوادر العراقية على إدارتها.

ولكن في ظلّ الأوضاع الأمنية في المناطق الحدودية في البلدين، من الصعب استخدام هاتين المحطتين بطريقة مثلى. لذلك، التفاهم الذي تم التوصل إليه لن يترجم قبل أن يسمح الوضع السياسي بذلك.

وفي هذا السياق، يقول الوزير السابق لحقوق الإنسان في العراق الدكتور بختيار أمين لـ«الجمهورية»: «كعراقيين لدينا نوايا وأمل لتحقيق أكثر من تعاون تقني في حوض دجلة والفرات، وهو ما دفعنا إلى القيام بزيارات ميدانية إلى نهر الراين والميكونغ والسينغال للتعلّم من هذه التجارب الإيجابية والممارسات الجيدة حتى لا نضيّع الوقت ونسير في منطقتنا بإنشاء آليات وهيئات مماثلة»، مُطالباً الحكومة السويسرية تقديم الدعم للعراق لتمويل وتدريب الكوادر لتشغيل المحطة.

على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي، تحدث ممثل وزارة الخارجية السويسرية ماريو كاريرا عن لقاء خبراء المياه من إسرائيل وفلسطين في حزيران وآب 2015 في مومباي واستكهولم لمناقشة سبل تنشيط لجنة المياه المشتركة. وهذا المسار هو جزء مستقل عن مجموعة السلام الأزرق التي تشمل لبنان والأردن والعراق وتركيا وسوريا فقط.

ووعد الخبراء الإسرائيليون بمراجعة لائحة مشاريع لتنمية الموارد المائية قدّمها خبراء المياه الفلسطينين لاستكشاف ما إذا كان تنفيذ مثل هذه المشاريع يمكن أن يسهّل عملية بناء الثقة بين الجانبين.

وتقترح عضو الهيئة العليا لمبادرة السلام الأزرق الدكتورة ميسون الزعبي أن تعطي اسرائيل الفلسطنيين حقوقهم بالمياه أولاً، ومن ثم يتم الإتفاق على الحصص الزائدة وكيفية تقاسمها، داعيةً الى الإستفادة من تجربة الأردن في إدارة موارده المائية الشحيحة بكفاءة وفعالية، على رغم ما يعانيه هذا البلد من ضغط متصاعد على بناه التحتية بفعل أزمة اللاجئين السوريين.

وبعد توقيع الإتفاق النووي بين مجوعة 5+1 وإيران، ورجوع طهران الى كنف الأسرة الدولية بات موضوع مشاركة الجمهورية الإسلامية التي تتقاسم موارد مائية عابرة للحدود مع تركيا والعراق على طاولة البحث، وكان الوزير العراقي السابق بختيار أمين ووفد بلاده سبّاقون في طرحه إنضمام طهران لضمان تعاون أوسع بين الدول المتشاطئة في حوضي دجلة والفرات.

الإعلام والتعاون المائي

ويبقى لدور الإعلام حصة كبيرة في تعزيز وعي الرأي العام، وقد خصّص المؤتمرون يوماً كاملاً لمناقشة كيفية بناء القدرات للإعلاميين في مجال المياه. وعرضت الكاتبة المتخصصة في شؤون المياه فرنشيسكا دي شاتيل لتجربتها والثغرات في عمل الصحافيين في تغطيتهم لقضايا المياه في الشرق الأوسط.

وركّز الصحافيون على أهمية تبسيط القصص المائية، واستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، وتعزيز اللجوء إلى الصور والجداول لمساعدة الناس على فهم أفضل للبيانات التي تُظهر كيفية إستنزاف المياه وندرتها، وأن يكون هناك جهود منسقة ومشتركة للإعلاميين من بلدان الشرق الأوسط للتأثير بشكل أفعل. وقبل أن ينصرف المؤتمرون، تُعيد الحكومة السويسرية تجديد دعمها لدول الشرق الأوسط.

ويقول دومنييك فافر من الوكالة السويسرية للتنمية التابعة لوزارة الخارجية السويسرية: «في ظلّ أزمة المهاجرين، سويسرا متفاجئة من قدرة دول جوار سوريا على تحمّل العبء الأكبر بالمقارنة مع دول الإتحاد الأوروبي»، لذا قررت سويسرا عدم الإكتفاء بالتركيز على الجانب الإنساني للأزمة واقتصار استجابتها على الأمد القريب، فعلى المدى الطويل ستعزز سويسرا التزامها باستقرار دول الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص ستدعم مبادرة السلام الأزرق التي ترى فيها السبيل الأمثل لتحقيق التعاون المائي بين دول المنطقة.

ومن المرجّح أن تستقبل سويسرا نحو 8000 لاجئ سوري على أن يتم اختيارهم من بين القاطنين في مخيمات لبنان والأردن، وفق ما يؤكّد فافر لـ«الجمهورية».

وفي نهاية المطاف، إنّ التلوث في نهر الراين والجفاف في نهار السينغال دفعا الدول التي تتقاسم مياه هذين النهرين إلى التحرّك ووضع بناء مؤسساتي لتعاونهما المستدام، فهل تنطلق دول الشرق الأوسط من معاناتها المشتركة في مجال التغيّر المناخي وأزمة اللاجئين وعنف الجماعات الإرهابية الى وضع اللبنة الأولى لتعاونها مستقبلاً؟