IMLebanon

سورية تحت الوصاية الروسية

 

استقرت الأمور الآن في سورية لمصلحة المنتصر الروسي الذي يستعين بالطرف الإيراني ويتعاون مع الطرف التركي، مستفيداً من انتصاره «السوري» لتثقيل موقعه الدولي في مواجهة الطرف الأميركي والدول الغربية عموماً.

 

 

وقد احتاج إلى ما يقارب السنتين بعد انتصاره في معركة حلب الفاصلة حتى استطاع البدء بالحصول على مبايعة المجتمع الدولي له في الهيمنة على جميع مناحي الحياة السورية، واعتبار ذلك غنيمة الحرب السورية.

 

وهناك دلائل عدة على هذه البيعة، كالإعلان عن خبر عقد قمة بين زعماء تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا في إسطنبول الشهر المقبل، والتي سيُناقَش خلالها الوضع الحالي في سورية. وهبوط طائرة مساعدات فرنسية في القاعدة الروسية في حميميم. وخروج الزعيمين الأميركي والروسي راضيين من اجتماع هلسنكي، الذي كان الموضوع السوري محوراً رئيسياً فيه. وفي هذه الآونة، يجتمع الرئيس الروسي مع المستشارة الألمانية لبحث عدد من المحاور، على رأسها الموضوع السوري.

 

روسيا مهيمنة الآن على سورية برضا دولي. ومسألة الهيمنة هذه من المفترض ألا تشكل مفاجأة. فقد كان هذا الموقع شاغراً منذ السنة الثالثة للأزمة السورية بانتظار أن يتبوأه المنتصر في الحرب الدولية بالوكالة في سورية. والهيمنة بعد الحروب ليست خاصة بسورية فقط، بل تقع على كثير من الدول مثل اليمن الآن.

 

يروق لقسم من السوريين اعتبار الوجود العسكري الروسي في سورية احتلالاً. وبعض هذا القسم يعتبر موقفه هذا فعلاً نضالياً أو ثورياً لا يتعارض مع تأييده للوجود العسكري التركي الذي يعتبره موجوداً لدعم «الشعب السوري».

 

وفي المقابل، نجد قسماً آخر من السوريين يتبنى موقفاً نقيضاً من الوجودين العسكريين الروسي والتركي. وهذا أمر يتماشى مع القسمة الاجتماعية والسياسة السورية التي تكرست خلال سنوات الصراع.

 

طبعاً، موقف السوريين من هذين الوجودين، وكذلك من الوجود الأميركي والإيراني، ليس مهماً إطلاقاً، لا موقف هؤلاء ولا موقف أولئك، إذ «لا أحد يكيل بمكيالهم». فالمكيال الوحيد لهذا الموضوع هو الموقف الدولي، متضمِّناً موقف الدول العربية والإسلامية، إضافة إلى موقف إسرائيل. وهذا المكيال كيل به لمصلحة الطرف الروسي.

 

ومع ذلك، فمن الخفة التعامل مع هذا الموضوع على أنه مجرد اختلاف في التسمية ومحمولاتها الأخلاقية، فيقتصر الموقف المبني على أساس ذلك على مجرد لَعن هذا الوجود أو حَمده. لكن إن أردنا حقاً مواجهته، بغض النظر عن شكلانية مسمّاه، فلا بد لنا من معرفة «من أين تُؤكل كتفه». وهذا يقتضي من جميع المثقفين السياسيين السوريين الاشتغال المسؤول لتحصيل نظرة عميقة تمكّننا من معرفة مقومات هذا الوجود وآثاره المستقبلية على سورية.

 

فمبدئياً على الصعيد الشكلاني، لا يمكننا اعتبار الوجود الروسي احتلالاً، إذ إنه جاء بناء على دعوة من السلطات السورية الشرعية وعلى اتفاق معها.

 

لكن، في المقابل فهو لا يقوم، أو لا يقوم فقط، على دعم الشرعية السورية أو مواجهة الإرهاب. إذ نرى بأم العين امتلاك روسيا صلاحيات لا يمكن أن تكون موجودة في نص اتفاقها مع السلطات السورية، مثل استئثارها بإعلان المعارك أو وقفها، كما هو حاصل الآن، أو قيام قطعات من جيشها في سورية بعقد اتفاقات مصالحة مع المجموعات المسلحة المحلية والأجنبية، أو أن يجيز هذا الاتفاق لقاعدة حميميم استقبال طائرات أجنبية، وإن كانت طائرة مساعدات كالطائرة الفرنسية.

 

فبعيداً من هذه الشكلانيات نحن في حاجة إلى تفكيك مبحثنا هذا إلى عناصره الرئيسية بهدف التوصل إلى وضوح أكثر من الرؤية، حتى نستطيع بناء موقف أكثر متانة من الصوتيات الإعلامية الفارغة.

 

يمكننا بناء على ذلك تحييد الوجود الروسي، افتراضاً، والنظر إلى سورية في حالتها بعد الحرب. سنجد ببساطة شديدة أنها لا تمتلك من القوة ما يمكّنها من منع هيمنة الدول عليها، بل يمكننا القول أن القوة التي تمتلكها هي قوة جذب للهيمنة. فما لديها الآن هو مجرد مجتمع مفكك ومتناحر، وسلطات ازدادت وحشية وازدراء بالوطن وبالجامع الوطني، تحولت منذ سنوات إلى مجرد ميليشيا من الميليشيات الكثيرة المنتشرة في البلاد، واقتصاد منهار، فيما نصف السكان مشرد داخل البلاد وخارجها، وهناك حجم دمار قد يزيد على ربع بنيانها. هذا إضافة إلى أن غالبية نخبها وطبقتها الوسطى هجرتها منذ السنتين الأوليين. وهذا فضلاً عن انتشار السلاح بين أيدي غالبية سكانها، وغير ذلك من العوامل الدالّة على تفككها دولة ومجتمعاً.

 

في النتيجة، إن سورية في حالتها العاجزة والمنهارة الراهنة تحتاج إلى دولة قادرة، أو مجموعة دول، ترعى مرحلة ما بعد الحرب فيها، بما تشمله هذه المرحلة من بناء مقومات دولة قادرة على العيش في شكل سلمي. لكن تسمية الراعي لا تحدده الرغبات والأماني أو الأدعية، بل هو تحصيل صراع وحرب، وقد حُسمت الحرب وبُتَّ الأمر، وبات الوجود الروسي، العسكري والسياسي والديبلوماسي، في سورية، هو المهيمن والطاغي على المشهد برمته. ولا أعتقد أننا في حاجة لبرهنة أن لا إمكانية الآن لأي عملية سياسية في سورية من دون قيادة موسكو لها، ولن تجري عملية إعادة الإعمار بعيداً من الحسابات الاقتصادية الروسية. ونرى الآن كيف أن عودة اللاجئين السوريين إلى البلاد بدأت تنحصر بالممرات الروسية. ولو كان المنتصر في الحرب دولة أخرى، أو مجموعة دول أخرى، لكانت هي الآن التي تحظى بهذه المكانة المهيمنة.

 

إذا عُدنا وقَرَنّا الوجود الروسي بالوضع السوري، من دون أن نُقصِره على الجانب العسكري فقط، بل نظرنا إليه كمُهيمن على الصعيدين السياسي والديبلوماسي أيضاً، لأمكننا اعتباره وجوداً وصائياً. أي لاعتبرنا روسيا وصية على سورية حتى لو لم تدّع لنفسها هذه الصفة أو هذا المسمى.

 

صحيح أنه لم يعد يوجد نظام انتداب أو وصاية مشرعن وفق الأمم المتحدة، لكننا نستطيع اعتبار روسيا وصية على سورية من دون تسمية رسمية. والهدف من ذلك هو محاولة لاعتبار روسيا مسؤولة عن الإشراف على استحقاقات ما بعد الحرب الكفيلة بإعادة تأهيل سورية لتكون دولة قادرة على العيش السليم. أي رأب ما تصدع وانهار على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومطالبتها كوصي بإعلان برامج عملها بشفافية، بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة ذات الخبرة في ذلك. هذا إضافة إلى وضع آليات لمساءلتها عن تنفيذ هذه المشروعات.

 

اختيار الموقع الذي يتوجب على النخب السياسية السورية النظر منه إلى الوجود الروسي، واختيار الفعل الذي يحقق المصلحة الوطنية من دون أن ينكسر أمام قسوة الواقع، ليس ترفاً معرفياً أو مسلكياً. فالجميع أمام خيارين وحيدين: إما الادعاء بتأجيل الاستحقاقات الضرورية، كالعملية السياسية وإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين وغيرها، إلى حين انتهاء الوجود الروسي من البلاد، وهذا له معنى واحد هو ترك هذه الاستحقاقات لروسيا لتتعاون على تنفيذها مع النظام ولفيفه. وإما القبول بحالة الوصاية على رغم الصعوبة الكبيرة في ذلك. فالأجيال السورية الحالية لم تعرف فترة الوصاية الفرنسية إبّان الانتداب الفرنسي، ولم تتذوق قبل الآن مرارة طعم فقدان الحق في إدارة شؤونها العامة، وخسران سيادتها الوطنية على أرضها وعلى مقدّراتها. ومطلوب منها الآن، إن اختارت هذا السبيل، اجتراع مرارة فقدان السيادة والاستقلال في الوقت ذاته الذي يتوجب عليها العمل على خلق فرص للنفاذ بين تلافيف الوصاية وحاجات الوصي لتحقيق إنجاز أجزاء من الاستحقاقات الوطنية ولو بمقدار صغير. فإن كان ينتاب النخب السورية العجز عن «رد هذا القضاء» فعليها أن تجد السبيل لجعل «اللطف» فيه.

 

لا شك في أن ما وصلنا إليه هو من صنع أيدينا، عندما اتجهنا جميعاً، مولاة ومعارضة، إلى هذه الدولة أو تلك نستقوي بها على خصمنا. فسلمناها منذ تلك اللحظة مفاتيح أمورنا ومصائرنا. ولكن إن كنا غير راضين عن هذه الوصاية، ونحن كذلك، فعلينا القبول بها كأمر واقع. لكن قبولنا هذا يجب أن يتساوق مع عملنا على إنهائها في مدى منظور. فهي لا تنتهي من تلقاء نفسها. فطالما أن مقومات الواقع السوري تستدعيها فإنها ستبقى قائمة. لهذا فإن العمل على إنهائها يتمثل حصرياً في تفكيك هذه المقومات وهدمعا، وبناء مقومات مجتمع يترابط بغير العصبيات الدموية، كالطائفة والقومية والعشائرية، بل بروابط مدينية تجعل منه مجتمعاً مؤهلاً لتنظيم نفسه في دولة حديثة تقوم على المساواة والمواطنة. وهذا سيجعل من البنيان المجتمعي نابذاً الهيمنة والوصاية.

 

لكن مثل هذا العمل لا يكون إلا داخل البلاد، وفي بيئة آمنة بعض الشيء، تتوفر فيها مساحة مقبولة من الحريات الفردية والسياسية. ومثل هذه البيئة لن ينشئها الطرف الروسي من تلقاء نفسه بالتعاون مع النظام، إذ لا بد من التنسيق بين مجموعة كبيرة من النخب السياسية والثقافية والاقتصادية السورية لإنجاز تفاهم دقيق مع القيادة الروسية حول ذلك، وعدم إضاعة الوقت والجهد بالحديث عن الرئيس الأسد. فالفرجة على الطرف الروسي والاكتفاء بتوصيفه بالمحتل، وإعابة أفعاله عليه، هو بكل وضوح استقالة نُخَبية من المهمات التاريخية.

 

ما ورد أعلاه كان تلخيصاً شديداً لمحاولة مقاربة الواقع، وليس خطوة للتقرب منه.

 

* رئيس تيار بناء الدولة السورية