IMLebanon

صيف 1978: الدخول السوري إلى المناطق المسيحية الشمالية (الجزء الأوّل)

 

 

كان من الواضح أن وضع الشمال المسيحي سيتبدل بعد 13 حزيران 1978، حيث بدأت تتسارع الأوضاع الميدانية على الأرض. سيبقى نهار الأربعاء 28 حزيران 1978 يومًا مفصليًّا في تاريخ بلاد البترون والشمال المسيحي، فهو الذي شهد الانتشار الواسع للجيش السوري في القرى والبلدات الشمالية المسيحية، ومغادرة آلاف الشبان من أبناء تلك البلدات إلى جرد البترون والمنطقة الشرقية. أما الجيش السوري فبقي متواجدًا في الشمال المسيحي حتى منتصف ليل 7 آذار 2005 حين غادر نهائيًّا، وذلك بحث آخر.

 

ماذا جرى يومها وكيف تم الانتشار السوري؟

 

مساء الثلثاء 27 حزيران 1978، عُقد اجتماع في مقرّ إقليم البترون الكتائبي في البترون، ترأسه الدكتور جورج سعاده، وشارك فيه عدد من مسؤولي الإقليم: خلال الاجتماع أبلغ سعاده المجتمعين أن قرارًا سيتخذ بانتشار قوات الردع العربية في منطقة البترون الساحلية والمطلوب العمل على تجنيب قرى وبلدات المنطقة، أي خضات أمنية قد تؤدي إلى خسائر وأضرار في المنطقة بغنى عنها، ويجب التعامل مع الواقع الجديد بهدوء وروية لمعرفة ما ستخبئه الأيام القادمة، وشدد خلال الاجتماع على وجوب سحب جميع المحازبين والمقاتلين المتحمسين إلى خارج المنطقة.

 

 

 

قبل ظهر اليوم التالي، أقرّ مجلس الوزراء الخطّة الأمنية المنتظرة التي تجيز انتشار الجيش اللبناني من جسر المدفون حتى بيروت، فيما تتسلم “قوات الردع العربية” المشكّلة من الوحدات السورية مسؤولية الأمن من جسر المدفون شمالًا على امتداد محافظة الشمال.

 

 

قبل أن ينتهي وزير الداخلية من قراءة مقررات مجلس الوزراء، كانت الوحدات الخاصة السورية بقيادة العقيد زهير مستت، انطلقت من معرض طرابلس في طريقها إلى جسر المدفون، حيث نشرت حواجزها في المواقع التالية: مفرق راس مسقا، مدخل القلمون الشمالي، دير الناطور، ووصلت إلى شكا؛ كانت القوة السورية مؤلفة من قرابة 130 آلية عسكرية ما بين سيارات “جيب” وشاحنات وصهاريج ودبابات ثقيلة وقطع مدفعية.

 

 

توقفت طليعة القافلة عند مفرق الأرز، وسرت أخبار أنها قد تؤجل تقدمها حتى صباح اليوم التالي، ولكن حوالى الساعة 1 ظهرًا، أدار السوريون محركات آلياتهم وبدأوا التقدّم ببطء بعد أن ركّزوا موقعًا عند مفرق الأرز وموقعًا ثانيًا في حي البلاط في شكا عند ملعب نادي الشبيبة، ولدى وصولهم إلى مدخل شركة الترابة أقاموا موقعًا ثالثًا.

 

تابعت القافلة السير وركزت موقعًا في الهري عند مفرق قرى القويطع الكورانية أمام محطة المحروقات، وموقعًا آخر عند مدخل النفق الشمالي.

 

 

 

حوالى الساعة 2.30 من بعد الظهر، وصلت القافلة إلى مفرق حامات وركّزت موقعًا مدعّمًا بالآليات، فيما انعطف رتل كبير من الشاحنات والآليات بقيادة العقيد نايف العاقل صعودًا إلى حامات، وتم تركيز موقع في مطار حامات، وأكمل السوريون تقدمهم إلى ساحة حامات، حيث تم تركيز موقع آخر، وانعطف رتل منهم إلى دير سيدة النورية وكنيسة مار سمعان، حيث تم تركيز أكثر من موقع.

 

 

من ساحة حامات، أكمل الرتل السوري تقدمه وركّز موقعًا عند باب الهوى بين حامات وراس نحاش، وتابع إلى راس نحاش وقرى القويطع الكورانية، وركز موقعًا في ساحة كفرحاتا وآخر في كفتون عند المفرق المؤدي إلى وسط البترون.

 

 

فيما القوات السورية تكمل انتشارها في حامات والقويطع الكوراني، تابعت القافلة الرئيسية تقدّمها على الطريق الساحلية ودخلت سلعاتا وركّزت موقعًا ثابتًا، عند مدخل البلدة الشمالي من دون أن تقيم حاجزًا على الطريق، كما ركّزت موقعًا ثانيًا قرب كنيسة مار يوحنا مارون الرعائية عند طرف البلدة الجنوبي الغربي، في نقطة تشرف على مرفأي شركتي الكيماويات والزيوت.

 

 

 

من أمام مبنى بلدية سلعاتا، انعطفت قوة من القافلة إلى وجه الحجر، حيث ركّزت موقعًا في مبنى تابع للإذاعة اللبنانية.

 

 

 

أكملت القافلة الرئيسية طريقها إلى كوبا، ونحو الساعة 3.30 كانت تعبر شارع مدينة البترون، حيث انعطفت قوة بإمرة العقيد عدنان عبيد صعودًا باتجاه عبرين، لكنها توقّفت أمام مبنى الريجي في أعلى البترون، حيث تم تركيز موقع عسكري من دون نصب أي حاجز.

 

 

 

أكملت القافلة الرئيسية تقدمها على الطريق الساحلي حتى مدخل مدينة البترون الجنوبي، وأقامت حاجزًا ثابتًا أمام محطة يوسف طنّوس الفغالي وتوقفت لبعض الوقت.

 

 

 

تابعت القافلة باتجاه جسر المدفون وركّزت موقعًا عند “شاليه” الوزير السابق الياس سابا في محلة “كوع الجمّال”، ودخلت كفرعبيدا، وركّزت موقعًا عند مدخل البلدة الجنوبي من دون أن تنتشر في الأحياء الداخلية، وأكملت حتى وصلت إلى جسر المدفون وانعطفت صعودًا باتجاه قرى منطقة البترون.

 

 

 

عند ورشة الأوتوستراد على بعد حوالى 300 متر إلى الشرق من جسر المدفون، تم تركيز موقع عسكري، وأكملت الآليات صعودها إلى تحوم وركّزت موقع عسكري آخر في حيّ تحوم التحتا مدعّم بالدبابات من دون نصب أي حاجز.

 

 

 

قرابة الساعة 6 مساءً، كانت الوحدات الخاصة السورية أنهت انتشارها على الخط الساحلي من طرابلس إلى جسر المدفون وبدأ الجنود تركيز مواقعهم وتدشيمها.

 

 

 

في هذا الوقت، كان معظم مقاتلي حزبي “الكتائب” و”الأحرار” انسحبوا من ساحل البترون إلى جرود المنطقة ومنطقة جبيل، وقبل بزوغ تباشير فجر الخميس 29 حزيران 1978 كانت القوة العسكرية لمقاتلي الساحل البتروني أصبحت في جرود البترون أو في منطقة جبيل.

 

 

 

وكان المستغرب لدى متتبعي عملية الانتشار، أن لا تتمركز القوات السورية عند جسر المدفون الفاصل بين محافظتي الشمال وجبل لبنان، بل عند ورشة الأوتوستراد على الطريق الصاعد باتجاه قرى البترون.

 

 

 

لماذا لم تتمركز القوات السورية عند جسر المدفون؟

 

بحسب العميد موريس أبو رعد وكان وقتها قائد ثكنة الجيش اللبناني في المدينة الكشفية وتابع تفاصيل الانتشار السوري:

 

إنّ سبب عدم تمركز القوات السورية عند جسر المدفون تحديدًا كان لترك المعبر الساحلي مفتوحًا ليتمكّن مقاتلو أحزاب “الجبهة اللبنانية” الخروج من ساحل البترون باتجاه المنطقة الشرقية، فجميع الحواجز السورية التي أقيمت على طرقات البترون الساحلية كان يمكن تحاشيها من قبل الأهالي المحليين، الذين يمكنهم المرور عبر طرقات ودروب جانبية صغيرة يعرفها الأهالي جيدًا. أما جسر المدفون فهو المعبر الوحيد الذي يصل الشمال بجبل لبنان.

 

 

 

أضاف: “خلال نهار انتشار القوات السورية على الطريق الساحلي من طرابلس إلى جسر المدفون، لم يركّز أي حاجز إلا في ما ندر، بل بدأت تفتيش السيارات اعتبارًا من بعد ظهر اليوم التالي، وكلّ ذلك كان لتمكين من يرغب بمغادرة المنطقة سالماً، فيما لم تتمركز عند جسر المدفون إلا مطلع الخريف”.

 

 

 

في نفس الوقت، كانت الأخبار تتوارد عن تعرض بلدات: القاع وراس بعلبك والفاكهة المسيحية الكاثوليكية في منطقة بعلبك الشمالية فجر 28 حزيران لمجزرة رهيبة، راح ضحيتها 26 شابًا مسالمًا.

 

رغم تمركز القوات السورية في الساحل البتروني، لم تكن مغادرة الأهالي بأعداد كبيرة وبقيت معظم العائلات في قراها، ولكن مع مباشرة القوات السورية مداهمة المنازل وتفتيشها، وتوقيف العديد من الشبان غير الحزبيين، الذين عادوا بمعظمهم إلى قراهم وآثار التعذيب واضحة على أجسادهم، إضافة إلى المضايقات التي تعرض لها الأهالي على الحواجز السورية، بدأ الكثير من الشباب غير الحزبي والعائلات مغادرة قراهم الساحلية.

 

 

 

لاحقًا، شهدت الحواجز السورية التي أقيمت في قرى الساحل البتروني خاصة حواجز مفرق حامات، مبنى الريجي، تحوم، مدخل كفرعبيدا الجنوبي، مدخل البترون الجنوبي، توقيف عشرات الشبان من أبناء منطقة البترون، أو من العابرين على الطريق الساحلي، الذين كانوا يُنقَلون فورًا إلى مركز القيادة السورية في شكا الكائن عند مفرق الأرز، ويتم إخضاعهم لاستجواب حول علاقتهم بحزب “الكتائب”، وبعد التحقيق إما يطلق سراحهم، أو يتم نقلهم إلى مقر القيادة السورية في الهيكيلة. وهناك عشرات الشهادات من أهالي القرى البترونية الساحلية الذين أوقفوا في تلك الفترة، ونقلوا إلى شكا والبعض إلى الهيكلية حول ما تعرضوا له من إهانات وضرب وتعذيب، لكن بعد أيام على الدخول السوري إلى القرى الساحلية، نسج بعض الوجهاء علاقات مع بعض الضباط السوريين وراحوا يقدمون لهم الهدايا، ويستضيفونهم في محاولة لتخفيف الضغط عن الأهالي، وساهمت العلاقات التي بنيت بإنقاذ العديد من الشبان وتهريب آخرين إلى خارج منطقة البترون.

 

 

 

في مقابل الانتشار السوري على الساحل البتروني والشمالي، بدأت القوات السورية تمدد انتشارها باتجاه منطقة الجبّة ووجهتها مدينة بشري. فعند الساعة 4 من بعد ظهر الجمعة 30 حزيران انطلقت قافلة كبيرة من الآليات والدبابات السورية من إهدن بقيادة العقيد محمد تامر الجوني قائد القوات السورية في الشمال، وعبرت قرى: كفرصغاب – بان – بلوزا – حدشيت وصولًا إلى مدخل بشرّي، فيما بقيت القوات السورية على المحور الثاني في بيت منذر على الطريق الرئيسي الصاعد من الكورة إلى بشرّي ولم تتقدم صعودًا إلى حدث الجبة وحصرون.

 

 

 

لماذا توقفت القوات السورية عند بيت منذر؟

 

يجيب العميد موريس أبو رعد: “توقف القوات السورية عند بيت منذر وتأخير الانتشار على محور حدث الجبة – حصرون – بقرقاشا – بشري، عائد لتوافق ضمني مع العائلات البشراوية لترك طريق حدث الجبة – تنورين سالكة ليتمكن من يرغب بمغادرة منطقة بشري – دير الأحمر من الوصول إلى منطقة البترون.

عند مدخل بشري لناحية حدشيت لاقى القافلة السورية رئيس بلدية بشري الشيخ ديتو سكر وممثلو العائلات البشراوية، الذين اجتمعوا بالعقيد تامر الجوني ومساعده المقدم شحاده درة، وتم تركيز موقع ضخم ولم تدخل الوحدات السورية إلى داخل مدينة بشري”.