IMLebanon

“المجلس الأعلى السوري اللبناني” لزوم ما لا يلزم

 

في تاريخ 22 أيار 1991 تم توقيع معاهدة “الأخوة والتعاون والتنسيق” بين لبنان وسوريا على أثر اتفاق الطائف الذي نص على” أن تقوم بين البلدين علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بينهما وتجسده اتفاقات في شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما”. وبموجب هذه المعاهدة التي حكمت سياسة لبنان وسيادته لحوالى عقدين انشئت عدة أجهزة مشتركة كان المجلس الأعلى السوري اللبناني إطارها العام.

منذ إنشائه في زمن الوصاية السورية شكّل هذا المجلس مثار جدل في الأوساط السياسية اللبنانية المعارضة للهيمنة السورية على كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية في لبنان. وإذا كان حينها حاجة فرضتها ظروف الأمر الواقع إلا أنه بات بعد نشوء العلاقات الدببلوماسية بين البلدين وتبادل السفراء بينهما لزوم ما لا يلزم وصارت استمراريته عبئاً سياسياً ومالياً على الدولة اللبنانية الرازحة اصلاً تحت كمّ من الأعباء المالية والمشاكل الوجودية.

 

مخالفات دستورية بالجملة

 

إذا أردنا الغوص في تاريخ هذا المجلس يمكن أن يُقسم الى مرحلتين الأولى هي التي رافقت الوصاية السورية على لبنان والثانية هي المرحلة التي تلت 14 آذار وغيّرت الواقع اللبناني السيادي بخروج الجيش السوري ونشوء التبادل الديبلوماسي بين الجارين اللدودين.

 

لا شك ان المرحلة الأولى لهذا المجلس أريد لها أن تكون فعالة إذ كانت مهمته أن يضع السياسة العامة للتنسيق والتعاون بين الدولتين في كافة المجالات: السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية وغيرها وأن يشرف على تنفيذها. وكانت قراراته إلزامية وتكتسب صفة التنفيذية بمجرد صدورها عن اللجان.

 

هذه الصفة الإلزامية والتنفيذية دعت وقتها النائب الدكتور ألبير مخبير الى رفع الصوت مندداً بالمخالفات الدستورية التي رافقت إنشاء المجلس الأعلى إضافة الى مفاعيله السياسية حيث أنيطت به صلاحيات إجرائية ما جعله مخالفاً للدستور. هذا إضافة إلى أن أعضاءه اللبنانيين لا صفة تقريرية لهم، لا منفردين ولا مجتمعين. واعطته مادته الرابعة صلاحية اتخاذ قرارات إلزامية ونافذة كقاعدة عامة، في حين جعلت الاستثناء العودة الى مجلس الوزراء والمجلس النيابي. أما الواقع الدستوري، فهو أنه لا يمكن أن يكون لقرارات هذه الهيئة أية صفة إلزامية ولا تكون نافذة ولا في أي حال من الاحوال لأنها ليست سلطة دستورية. لذلك فإن جميع ما تقوم به يجب أن يقترن بقرارات من المجلس النيابي، ولا استثناء واحداً جائزاً على هذه القاعدة.

 

كذلك جاء في دراسة النائب مخيبر حينها ان المادة الرابعة تعطي “المجلس الأعلى” حق تحديد المواضيع التي يحق للّجان المختصة إتخاذ قرارات فيها وتكتسب الصفة التنفيذية بمجرد صدورها عنه، وفقاً للأنظمة والاصول الدستورية في كل من البلدين. واعتبر أن هذه الفقرة تخالف الدستور أيضاً، فبما أن لا صفة دستورية للمجلس الاعلى، لا يحق له تحديد أي شيء تكون نتيجته إلزامية على أي مواطن لبناني. فالهيئة ليست سلطة دستورية ولا هي منبثقة من سلطة دستورية لكي تتمكن من إتخاذ إجراء كهذا. ولا يحق لها اتخاذ قرارات تكون لها نتائج تنظيمية ومالية بهذه الخطورة والأهمية. ويجب ان تنحصر كل الصلاحية بالمجلس النيابي في ما يتعلق بلبنان.

 

دور تسهيلي

 

للاطلاع على واقع المجلس الأعلى في تلك الحقبة كان لنا حوار مع وزير الخارجية الاسبق في عهد الرئيس الياس الهراوي الاستاذ فارس بويز الذي أُنشئ المجلس الأعلى أيام توليه حقيبة وزارة الخارجية.يقول بويز ان المجلس الأعلى لم يكن تجربة ناجحة والصلاحيات التي كان يفترض به ممارستها كانت تمارس من قبل المؤسسات في الدولتين من دون المرور به. واقتصر دوره على الناحية التسهيلية لبعض المشاكل العالقة بين الوزارات اللبنانية والسورية حيث كان أمينه العام يبادر الى ترتيب الاتصالات بين الأطراف.

 

في الأصل أنشئ هذا المجلس لتدوير الزوايا في المواضيع الشائكة المطروحة بين البلدين وتسهيل حلحلتها وكان موثوقاً به من قبل السوريين إذ كان أمينه العام نصري الخوري يتمتع بصداقات في سوريا ومع الحزب القومي السوري. لكن تم تخطي المجلس من قبل اللبنانيين والسوريين لأسباب متعددة، أوّلها القرب الجغرافي بين البلدين وإمكانية التفاوض مباشرة وبسهولة بين الأطراف، وثانيها أن المجلس لم ينظم أموره ولم ينمِّ أجهزة متخصصة واختصر أمينه العام كل صلاحياته. نظرياً كان يفترض ان يتعاطى بكل ما له علاقة بين البلدين لكن سرعان ما تبين ان الشؤون الأمنية والعسكرية كانت تتم بتفاوض مباشر بين قائد الجيش اللبناني من جهة وكان وقتها العماد إميل لحود ورئيس الأركان في الجيش السوري اللواء حكمت الشهابي، فيما كان يتولى التنسيق الأمني اللواء جميل السيد. أما في ما يختص بالشؤون الخارجية فيؤكد الوزير بويز أنه كان يتولى التفاوض بشأنها مباشرة مع الرئيس الراحل حافظ الأسد وأحياناً مع وزير خارجيته فاروق الشرع.

 

إذاً، لم ينجح المجلس الأعلى في انتزاع دور له حتى في المواضيع المدنية والاقتصادية وبات يتعاطى ببعض الحالات الإفرادية لسوريين في لبنان او العكس. والقضية الأهم وفق ما يرى بويز التي كان عليه ان يصب تركيزه باتجاهها هي قضية المفقودين اللبنانيين في سوريا، لكنه لم يعمل عليها في حين انه كان قادراً على إحداث خرق في هذه القضية الحساسة.

 

عقم مكلف

 

يبرر الوزير بويز عقم المجلس الأعلى بأسباب عميقة تعود الى بنية كل من لبنان وسوريا. ففي لبنان أراد السياسيون اللبنانيون وأصحاب القرار أن تكون علاقتهم مباشرة مع أصحاب القرار في سوريا بدون المرور بوسيط وذلك لتمتين العلاقات الشخصية وتبادل الخدمات بينهم وبين هؤلاء. أما من الجهة السورية فإن النظام السوري لم يكن مهيئاً للعمل ضمن أطر مؤسساتية تنظم العمل بين دولتين على الطريقة الأوروبية. فهو نظام يمسك بقوة بكل مفاصل الحياة في سوريا ويتعاطى معها من الناحية الأمنية وقد أراد أن يمسك شؤون لبنان كلها سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية بالطريقة نفسها لا سيما وأنه كان مكلفاً دولياً بالشأن اللبناني. من هنا يمكن القول ان البلدين مسؤولان عن فشل هذه التجربة، مع أن سوريا حاولت مرات عدة تعويم هذا المجلس. ويقول بويز انه لا يتذكر أمراً واحداً بَتّ به المجلس كما لا يتذكر اي اسم من أعضاء أمانته العامة إلا نصري الخوري…

 

اليوم يؤكد الوزير السابق بعد خروج الجيش السوري وتبادل السفراء انه لم يعد لهذا المجلس اي دور يذكر رغم انه قادر على لعب دور مهم في قضية اللاجئين بحيث يكون المرجعية التي تحصي أعدادهم وأماكن تواجدهم والمناطق التي تهجروا منها بغية العمل على تسهيل عودتهم إليها.

 

رغم عقمه وعدم قيامه بالدور الذي كان عليه توليه فإن المجلس الأعلى السوري اللبناني لم يغب يوماً عن موازنات الحكومات اللبنانية المتعاقبة وقد بلغت ميزانيته، بحسب ما اوردته المفكرة القانونية، في مشروع موازنة 2012 وفق ما ورد في الباب 3 ضمن فقرة رئاسة مجلس الوزراء، الفصل الأول، 850 مليون ليرة لبنانية اي ما يوازي 550000 دولار أميركي وتتولى الدولة السورية دفع الحصة نفسها. وفي السنوات الأخيرة اي في الأعوام 2015 و 2016 و2017 استمرت ميزانياته على حالها وفق الدولية للمعلومات اي 885 مليون ليرة لبنانية وانخفضت عام 2018 الى 708 ملايين ليرة لتعود وتصبح في العام 2019 في حدود 796500مليون وتنخفض بعدها الى 716850 مليوناً في عامي 2020 وفي مشروع موازنة 2021.

 

ووفق المصدر نفسه تم دفع حصة لبنان في العام 2020 فيما لم يتم التسديد بعد عن العام الحالي.

 

أما عدد موظفي المجلس فهو 22 موظفاً يفترض ان يكونوا مناصفة بين اللبنانيين والسوريين إلا أن عدد السوريين أكبر بحسب الدولية للمعلومات. وتدفع رواتب الأمين العام والموظفين في المجلس من خلال مساهمة الدولتين في ميزانيته.

 

كونفدرالية مقنّعة

 

لبنان الغارق في أزمة مالية تهدد كيانه لا يزال عليه تسديد متوجباته لمجلس يُجمع الكل انه لم يبقَ له دور. فلماذا إذاً الإبقاء عليه ولمَ لا تقوم الحكومة بإلغائه؟

 

نسأل النائب الأسبق والخبير القانوني غسان مخيبر عن هذا الأمر فيقول ان كلفة المجلس تتخطى الكلفة المالية فهي سياسية في الموقع الأول لأنه ينشئ مؤسسة شبه كونفدرالية ولا يمكن بناء العلاقات بين دولتين على هذا الأساس الذي كان قائماً ايام الهيمنة السورية. اليوم لا بد من إلغاء الاتفاقية التي قام بموجبها المجلس الأعلى. فالعلاقات يجب ان تمر بالأطر العادية المتعارف عليها بين الدول وليس عبر مؤسسة كونفدرالية كما يقول مخيبر. لقد اثبت المجلس عدم جدارته واليوم بشكل خاص انتفت كل حاجة إليه ولا يمكن أن نعيد عقارب الزمن الى الوراء.

 

نتأكد من النائب الأسبق عما يقصده بالكونفدرالية فيقول ان المجلس عبارة عن جهاز إداري مشترك بين البلدين لإدارة مصالح مشتركة ولا تحتاج الدول الى جهاز كهذا لإدارة مصالحها إلا متى كان بينها نوع من الكونفدرالية. وفي ظل الالتباس القائم في العلاقة بين لبنان وسوريا لسنا بحاجة الى مؤسسة مماثلة. معاهدة “الأخوة والتعاون والتنسيق” كانت لصالح سوريا ونتجت عنها مجموعة إتفاقيات كانت غير منصفة للبنان مثل تقاسم مياه نهر العاصي كما أنها عقدت في الأصل لترسيخ فكرة شعب واحد في دولتين التي منها انطلقت مشاكل لبنان.

 

في هذه الحال وبعد خروج سوريا من لبنان لمَ لم يلغ المجلس المذكور؟ يقول مخيبر ان إلغاءه يحتاج الى قرار جريء من قبل الحكومة اللبنانية وقد عمد هو شخصياً في العام 2010 الى توجيه كتابين الى كل من الرئيسين ميشال سليمان وسعد الحريري أرفقهما بالدراسة السابقة التي أجراها عمه الراحل النائب ألبير مخبير، يعرض فيهما ابرز المخالفات التي تعتري “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” ومطالباً إياهما بالعمل على تعديلها، وبخاصة إلغاء الأجهزة الدائمة المنشأة بموجب هذه المعاهدة، لا سيما “المجلس الأعلى” و”الأمانة العامة” لمخالفتها الدستور ولعدم ائتلافها مع تبادل التمثيل الديبلوماسي القائم حالياً.

 

مسخ قانوني

 

فالمعاهدة جعلت من المجلس الأعلى هيئة تقريرية في عدد كبير من المواضيع الهامة والخطيرة ما يضعها في اطار هو اشبه بالنظام الكونفدرالي، وجعلت قرارات المجلس الأعلى الزامية ونافذة المفعول وعبر المجلس الأعلى أعطيت للأمين العام صلاحيات فيها مخالفات دستورية فيما المعاهدات الدولية في المبدأ لا يمكن أن تخالف دستور الدول التي توقع عليها. هذا إضافة إلى أن أعضاء المجلس الأعلى اللبنانيين لا صفة تقريرية لهم في النظام الدستوري اللبناني بشأن تنظيم العلاقات الدولية، لا منفردين ولا مجتمعين، باستثناء رئيس الجمهورية الذي يتمتع وحده بصلاحية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية، فكيف لهؤلاء الأعضاء اذاً ان يمنحوا مثل هذه الصلاحيات في المعاهدة؟

 

صار المجلس الأعلى مؤسسة تعلو على الدستور وأعطى موظفاً اسمه الأمين العام صلاحيات على حساب المؤسسات. هو مسخ قانوني آن له ان يختفي بعدما حل محله التمثيل الديبلوماسي.

 

رغم المطالبات لم تستطع الحكومات المتعاقبة قطع حبل السرة مع سوريا ولم تستطع ان تلغي الاتفاقيات القائمة. فالمهمة ليست مهمة مجلس النواب الذي لا يستطيع أخذ القرار بإبطال اتفاقية دولية. بل ان مفاوضة الاتفاقيات الدولية هي مسؤولية دستورية ملقاة على عاتق رئيس الجمهورية والحكومة.

 

ولكن السؤال المطروح هنا هل يمكن للدولة اللبنانية إلغاء المعاهدة وما ترتب عنها من طرف واحد؟ ام يجب ان يتم الاتفاق بين الطرفين لإلغائها؟ ربما استمرار الأمين العام نصري الخوري في الأمانة العامة لكل هذه السنوات يجيب على هذا التساؤل إذ طالما لم تتفق الدولتان على تغييره فإنه يبقى بفعل الاستمرارية، وهكذا المعاهدة التي اوجدته…

 

المكتب الدائم للعلاقات الثنائية

 

قبل نشوء المجلس الأعلى السوري اللبناني كان «تنسيق» العلاقات بين الدولتين السورية واللبنانية يتم عبر المكتب الدائم للعلاقات اللبنانية السورية الذي كان بمثابة سفارة بين البلدين. لكن إنشاء المجلس الأعلى لم يلغ هذا المكتب الذي استمر عمله الى جانب المجلس الأعلى حتى إنشاء التبادل الديبلوماسي بين البلدين. وقد ترأسه بداية ألبير عاصي وكان مقره في دمشق ثم ترأسه شخص من آل حجو وكان يضم ثلاثة موظفين لبنانيين ينالون رواتبهم بالدولار من لبنان ويتقاضون بدل اغتراب كأي موظف يعمل في سفارات لبنان في الخارج.