IMLebanon

طهران تتجرع علقم مقتل سليماني

 

لم تستعد طهران اتزانها حتى الآن. سيل الصدمات المتتالية التي تلقتها منذ الرد العسكري على مواقع في شمال شرق سوريا وحتى سقوط قاسم سليماني وإسقاط الطائرة الأوكرانية كان عصيّاً على دولة الولي الفقيه أن تستوعبه أو تحتويه. لم تقوَ الدولة التي صدحت حناجر ميليشياتها في العواصم العربية المتهالكة وفي طهران بعبارات «الموت لأميركا» على اتّخاذ قرار الثأر لهيبتها. صعود وهبوط خطاب التهديد للولايات المتّحدة على ألسنة قادتها أفرز رداً بصواريخ خاوية من الرؤوس المتفجرة، ما لبث أن استُلحق باعتراف يقارب الاعتذار بأنّ إيران لا تريد إيقاع خسائر بشرية في  صفوف القوات الأميركية وهي تكتفي بهذا الرد ولا تطلب أي رد من حلفائها، لتنهال بعد ذلك تصريحات المسؤولين الإيرانيين وحلفائهم في العراق في محاولة لاحتواء الموقف والتراجع عن كلّ المواقف السابقة، بما في ذلك دعوة القوات الأميركية للخروج من العراق، وفي هذا تسليم بالوضع الراهن وفقاً للشروط الأميركية.

 

رضخت طهران لوقائع السياسة والميدان وتجرّعت علقم مقتل سليماني بما يذكّر بقبول وقف إطلاق النار في العام 1988 بعد ثماني سنوات من الحرب مع العراق. المظاهرات التي عمّت المدن الإيرانية والدعوة لسقوط النظام على خلفية اعتراف الحرس الثوري بإسقاط الطائرة الأوكرانية ومقتل 145 إيرانياً منهم 63 يحملون الجنسية الكندية، قضوا نتيجة اختلال في السيطرة في منظومة دفاعية متلاشية، وتبادل الإتهامات بين كبار المسؤولين، إلى جانب تصاعد المطالبة بالسيادة العراقية وإضرام النار في كربلاء في مقر منظمة بدر التي يقودها هادي العامري، وأفول دور الفصائل الإيرانية في سوريا لصالح الدور الروسي المتعاظم يوماً بعد يوم، يثبت بما لا يقبل الشك أنّ هذا أقصى ما يمكن بلوغه. اعتقال السفير البريطاني في طهران لتواجده في مكان التظاهرات والمطالبة بإغلاق السفارة البريطانية، واغتيال الصحافيين والناشطين في البصرة وكربلاء كلها دلائل أنّ إيران تتخبط في ما هو أكثر من قدرتها على الإحتمال، حُكم يريد إقناع نفسه أنه يمتلك القرار وجمهور يملأ الساحات واقتصاد متردٍ وعزلة إقليمية ودولية وخطاب تعبوي أضحى خارج التاريخ والجغرافيا وعلم السياسة. من هنا يصبح البحث عن المسار المتكامل  للرد الذي يُفضي الى إخراج القوات الأميركية والذي تكلّم عنه الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله مسألة محكومة بالتقيّة الإيرانية لتمرير اللحظة الحرجة وبلامركزية القرار بعد سقوط قاسم سليماني ومعه قيادة شخصانية لفيلق القدس.

 

وجدانية غياب قائد فيلق القدس دفعت الأمين العام لحزب الله لتكريس دوره الريادي في مكافحة الإرهاب فذهب في خطابه لمطالبة شعوب المنطقة بالتوجه بالشكر لقاسم سليماني ولقادة الحشد الشعبي لدفاعهم عن المنطقة ضد تنظيم داعش. ربما غاب عن بال الأمين العام أنّ شعوب المنطقة التي ذاقت الأمرّين من ديكتاتوريات عسكرية وأنظمة أمنية وميليشيات تكفيرية على أنواعها وعانت ما عانته من قمع وتهجير ما زالت تحتفظ بكرامتها وهي مستعدة للموت في سبيلها وغير مستعدة للرضوخ والاستتباع من جديد. أول الغيث جاء على لسان المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان جوتيار عادل الذي قال «إنّ قوات البشمركة هي التي دافعت عن إربيل وعن كردستان وليس غيرهم وقد شكرنا من ساعدنا، أما قاسم سليماني فقد كان يحلم مع أمثاله باحتلال كردستان، لكن مُرغت أنوفهم في مواجهة صمود البشمركة ودفاعهم البطولي ودفنت أحلامهم… الرئيس البارزاني هو رمز صمود الأمة……».

 

شعوب المنطقة من البحر المتوسط إلى الخليج العربي ما زالوا يريدون الثأر لكرامتهم  وذاكرتهم ليست أقل حضوراً من ذاكرة أكراد العراق. فهل سوريا التي كان لقاسم سليماني فيها صولات وجولات هي الآن أكثر منعة وأشدّ استعداداً لمواجهة العدو الإسرائيلي في وقت يتشرّد فيه ملايين السوريين في أصقاع الدنيا وسويّت مدنهم بالأرض ويتمّ إخضاع تاريخهم وهويتهم للتحوير والتزوير؟ وهل يشعر أبناء العراق مهد النبي إبراهيم وأرض أئمّة المسلمين سنّة وشيعة، أرض الإمام علي والإمام الحسين وأخيه العباس، والإمامين الكاظميين، والإمامين العسكريين، والإمام المهدي، وكثير من مراقد ومقامات أولاد الأئمة والصحابة مثل سلمان الفارسي، والتابعين أنّ العراق اليوم هو أكثر قدسيةً وحضارةً ورقياً وأكثر حضوراً كاحتياطٍ للجبهة الشرقية التي كان يخشاها العدو الصهيوني؟ وهل لبنان الذي أفقدته دولة الولي الفقيه محيطه العربي ومكانته الدولية ما زال  فعلاً حلقة الوصل بين الشرق والغرب ومثالاً لتعايش الطوائف وحوار الثقافات؟ وهل القرار الفلسطيني الوطني المشرذم بين منظّمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس التي ابتكرتها دولة ولاية الفقيه مع حليفها في نظام دمشق هي أكثر استجابة لمطالب الشعب الفلسطيني وأكثر قدرة على تحقيق دولته؟ وهل هذه العواصم التائهة العاجزة عن تشكيل حكوماتها هي أفضل مما كانت عليه قبل دخولها في فلك تصدير الثورة؟ وهل قدّمت دولة الولي الفقيه في إيران نفسها نموذجاً يُحتذى بتحويل الصراع مع إسرائيل الى معركة إسقاط العروبة في متاهات الصراع المذهبي؟

 

لم يبادر حتى حكام المنطقة الذين حمى قاسم سليماني عروشهم إلى شكره، فربما هم يدركون الآن هول ما جنت سياساتهم. أما الشعوب التي ما زالت تمتلك كرامتها وتسعى لاستعادة دورها فلديها كل الجرأة لقول الحقيقة…