IMLebanon

كيف يتعاطف سفير باريس في لبنان مع حكومة لا تستطيع تلبية شروط الإصلاح؟

 

الأصوات الفرنسية تتعالى اعتراضاً على التهاون مع إيران

 

يوماً بعد يوم، يتعزّز الاتجاه العام في السياسة الخارجية الفرنسية نحو الحفاظ على التوازن في علاقاتها الخارجية، وتحديداً فيما يخصّ إيران وسلوكها في المنطقة العربية وكيفية إدارة الصراع المندلع بين الولايات المتحدة الأميركية مع طهران ومآلاته وتداعياته على المصالح الدولية، خاصة أنّ الجانب الإيراني يمارس أقصى درجات الانتهازية والاستغلال بعيداً عن تحقيق المصالح الفرنسية، وبالتوازي مع إعادة تفعيل بيادق الإرهاب التي يتقن الحرس الثوريّ تحريكها في الساحات العراقية والسورية واللبنانية.

 

تستغلّ طهران النزعة السيادية الفرنسية التي ترفع شعار «نحن لدينا سياسة مستقلّة» في وجه ما تعتبره مساعي الولايات المتحدة الأميركية للهيمنة على أوروبا، لتدفع الدفة الفرنسية نحو التناغم معها في إطار اصطفافٍ بعضُه معلن وبعضُه الآخر مضمر، وسط تقديم «إغراءات» اقتصادية لا تنفكّ تفقد قيمتها مع تصاعد الحصار الأميركي على طهران.

 

أصواتٌ فرنسية معارِضة للتطبيع مع «حزب الله»

 

رغم ما تُعرف به الحياة السياسية الفرنسية من تحفُّظ في إبداء المواقف، إلاّ أنّ منابر الرأي في باريس بدأت تشهد تعبيراً واضحاً عن توجهات الرأي العام الفرنسي، فيما يتعلّق بسلوك «حزب الله» وضرورة مغادرة مساحة التردُّد في الموقف، وأهمية الانضمام إلى ألمانيا في موقفها الذي اتخذته من الحزب وواجهاته المختلفة.

 

في هذا السياق، نشرت مجلة Revue politique et) parlementaire) الفرنسية مقالاً تحت عنوان «الانقلاب المصرفي لـ «حزب الله» في لبنان»، متحدثة بشكل مفصّل عن مساعي الحزب إلى وضع اليد على قطاع المصارف في لبنان، بعدما نجح في الامساك بمقدرات الحكم.

 

كاتب المقال هو عضور لجنة الشؤون الخرجية في البرلمان الفرنسي النائب السابق جان-كريستوف كامباديليس، فقدّم في مقاله رؤيته لمجريات الأمور في لبنان، فأشار إلى أن «حزب الله» يبدو «في موقع قوة يتيح له القبض على مفاصل السلطة.. بدليل أن القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني (الذي اغتيل في كانون الثاني الفائت) أعلن بوضوح أن بلاده «تتمتع بأكثر من 74 نائباً في البرلمان اللبناني».

 

ولفت الكاتب في المقال إلى أنّ ثورة 17 تشرين 2019 ناهضت سياسات «حزب الله»، والتقت مع الجهات الدولية والدول المانحة في مؤتمر سيدر على جملة مطالب أبرزها: إعادة هيكلة القطاع العام، إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان وتعيين مجلس إدارة لها، وهيئة ناظمة للقطاع. مطالب أضاف إليها الثوار حلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية.

 

ولفت إلى أن بعد استقالة حكومة سعد الحريري، ولدت حكومة أريد لها أن تكون من الاختصاصيين، في محاولة من الرئيس ميشال عون والسيد حسن نصرالله الاستجابة لأحد مطالب الشارع للحدّ من إندفاعه. غير أن حكومة الرئيس حسان دياب لم تكن إلا فريقاَ وزارياً أطلق عليه اللبنانيون تسمية «حكومة اللون الواحد»، على اعتبار أنها مجرد تحالف بين عون والثنائي أمل – «حزب الله».

 

وأضاف الكاتب الفرنسي: بعد ولادة الحكومة، بدا «حزب الله» في موقع المواجهة مع الأزمة المالية والمصرفية التي تعصف بالبلاد، ولم يكن من مجال أمامه إلاّ الغرق في وحولها، مشيراً إلى أن الأرقام المرعبة للأزمة معروفة عالمياً: يشكل قطاع الكهرباء 65% من الدين العام (42 مليار دولار)، معطوفة على الدعم للديون السورية، والأعداد الهائلة للاجئين السوريين في البلاد، التي تمر في ظل صمت المجتمع الدولي.

 

وأضاف النائب الفرنسي السابق: بدت المفاوضات اللبنانية الرسمية مع صندوق النقد الدولي ممراً حيوياً واستراتيجياً للبلاد برمّتها كما لحكومة اللون الواحد، مذكراً بأن «حزب الله» تخلى في هذا المجال عن عقيدته القائمة على (ما يمكن تسميته) الاعتماد على النفس، وأفسح المجال أمام إنطلاق مسار المفاوضات… شرط عدم المساس بموارده.

 

وبالإنتقال إلى الحديث عن إعادة هيكلة المصارف، نبه الكاتب إلى أن هذه الخطوة «تتيح الكلام عن استعداد «حزب الله» لوضع يده على هذا القطاع الاستراتيجي، تمهيداً لتكريس سيطرته عليه بشكل نهائي».

 

وأشار إلى أن عملية تحكم «حزب الله» بالقطاع المصرفي هذه إنطلقت من ودائع اللبنانيين وبعض الثروات الكبيرة التي لم ينقلها أصحابها إلى الخارج، منبِّها إلى أنّ خطة إعادة الهيكلة تقوم على مبدأ سهل جدا، وهو «مصادرة البنوك»، «هنا تماماً مكمن الانقلاب على المصارف»، معتبراً أنّ الحديث عن منح الرخص لإنشاء 5 مصارف جديدة يديرها مقربون من دوائر الحكم، أثار سخرية الشارع اللبناني، على حد قول الكاتب.

 

واعتبر أن امام هذه الصورة، ما كان من السيد نصرالله إلا أن خرج عن صمته، «مؤكدا، كما لو أنه يملك السلطة أن الخطة قابلة للدرس والتعديل»، مشيرا في الوقت عينه إلى أن «المصارف ارتكبت أخطاء»، في إشارة إلى تنفيذ العقوبات الأميركية المفروضة على الحزب».

 

وفي قراءة لهذه الخطوات والمواقف، نبه الكاتب إلى أن «حزب الله يحاول مصادرة الثورة (ركوب موجتها) باسم… الثورة، مذكراً بأنّه يستفيد من الأزمة السياسية في اسرائيل، ومن الصراع على السلطة في العراق، ومن التركيز الأميركي على مواجهة إيران، والأزمة التي سببها كورونا».

 

لكنه ختم منبها إلى أن «عندما سيستيقظ العالم من كل هذه الأزمات، سيكون الأوان قد فات، وسيحصل الحزب على دولة، مؤكداً أنّ الحزب لن يتخلى عن مكتسباته، داعيا فرنسا إلى دعم الثورة مع الحرص على عدم مصادرتها، بشكل يتيح للبنان أن ينهض من كبوته».

 

وفي السياق نفسه، نشرت مجلة «les Echos»  وهي الصحيفة الاقتصادية الأولى في فرنسا، مقالاً للكاتب إيف بورديون تحت عنوان «حزب الله، عقبةٌ أساسية أمام الاصلاح»، تناولت فيه واقع الحزب المالي وقدرته على التأثير على القرارات الحكومية.

 

واشار إلى أن صندوق النقد الدولي والدول المانحة، على رأسها  واشنطن وباريس، تواجه عقبة كبيرة: لبنان يعتبر مجموعة أحزاب وسلطات طائفية تتقاسم الشركات والخدمات العامة من توزيع المياه إلى كنس النفايات.

 

ويلفت الكاتب في هذا السياق إلى أن حزب الله يعد صاحب القدرة الأقوى في هذا المجال. ذلك أنه «ميليشيا»، وهو أيضا الذراع العسكرية لايران على الحوض الشرقي للمتوسط، والحزب السياسي الذي يمثل الأقلية الشيعية (التي تشكل 20 % من الشعب اللبناني)، وهو أيضا مؤسسة خيرية». وانطلاقاً من هذه الصورة، ذكر الكاتب أن الحزب عرقل طويلاً أيّ مفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي، خشية أن يطلب الصندوق مجموعة إجراءات بينها وضع حد لسيطرة الحزب على المرفأ والمطار والمعابر (غير الشرعية) على الحدود مع سوريا، حيث تهرب مواد كالفيول والطحين والأدوية المدعومة من الحكومة، على  حد قول مدير مرصد الدول العربية، أنطوان بصبوص.

 

هذه الأصوات الباريسية، لا يبدو أنّ السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه يسمعها أو يقرؤها، بل هو مهتمٌّ بالتسويق والتصفيق لحكومة «اللون الأصفر» (اللون المعتمد لدى «حزب الله»)، بل إنّه لا يرى هذا الفشل الذريع لهذه الحكومة التي لا تقوى على مخالفة الحزب في صغيرة ولا كبيرة. فهي تقارب ملفّ الحدود شكلياً، بينما أعلن نصرالله أنّه هو المسيطر عليها، وأنّ عمليات التهريب ستستمرّ طالما لم يطبّع لبنان مع نظام بشار الأسد، فضلاً عن منع الرقابة والتفتيش في مرفأ بيروت ومطارها.

 

والأخطر من ذلك، أنّ حكومة حسان دياب جاءت بمدير عام المالية آلان بيفاني ليضع ما أسمته خطة الإنقاذ المالية، فإذا به يعترف أمام مجلس النواب بأنّه وضع الخطة على عجل ليقدّمها إلى صندوق النقد الدولي، وليتّضح أنّها تعاني من عيوب فاقعة، منها وجود فارق في أرقامها مع أرقام مصرف لبنان بقيمة 42 مليار دولار فقط!

 

بيفاني هذا هو نفسه الذي ورّط الحكومة اللبنانية بأرقام سلسلة الرتب والرواتب، وارتكب فيها أخطاءً في الأرقام أيضاً بلغت مليارات الليرات اللبنانية، وكانت أحد أسباب الكارثة الواقعة حالياً.

 

كيف يمكن للسفير فوشيه أن يستمرّ في إبداء تأييده لحكومة فشلت في تحقيق أيّ إنجازٍ في الكهرباء وهو الملف الذي يشدّد عليه ناظر مؤتمر سيدر بيار دوكان، وبات مؤكداً أنّ هيمنة النائب جبران باسيل على هذا القطاع لن تسمح بأيّ إصلاح مطلوب..؟

 

حكومة اللون الواحد هذه محكومة بالخضوع التامّ لـ»حزب الله»، وما يجري شراء وقتٍ لصالحه، بينما يدفع المجتمع الدولي لتخلص لبنان من وضعية الرهينة لدى الحزب، وهو الجهد الذي يفترض أن تكون فرنسا من أوائل العاملين في إطار، لتحافظ على دورها في بلد الأرز، فلبنان على وشك دخول مرحلة تتساوى فيها فرص التحرير والإنقاذ مع مخاطر الهيمنة والانهيار.

 

في باريس ضجّة حول ما يفعله سفيرها في بيروت، وفي بيروت انتظار للموقف الفرنسي المساند للدولة ولمبادئ الحريّة وحقوق الإنسان، فاستعادة دور الأمّ الحنون لا يكون من خلال السماح للسلاح بالهيمنة، بل بالعودة إلى الدستور والشرعية الدستورية المنبثقة عن انتخابات حرّة ونزيهة، وهو أمرٌ لن يتحقّق طالما يضع «حزب الله» السلاح في رؤوس اللبنانيين.