IMLebanon

الآشوريون يعبرون لبنان… ويرفعون صلاتهم «أعطنا خبزنا كفاف يومنا»

لا يزالُ المسيحيّ المشرقيّ يَسيرُ على درب الآلام الذي حفرته له التنظيمات الإسلامية المتطرّفة ببرودة ووحشية، وفي زمن الصوم يسلك الآشوريون دربَ الجلجلة نفسَه الذي سلكه السيدُ المسيح.

تسمع صوت جرس الكنيسة الآشورية في البوشرية من بعيد، تقترب بخشوع وفضول رويداً رويداً لتجدَ جمْعاً كبيراً من المؤمنين محتشداً في الباحة الخارجية. جميعهم آشوريون، لكنّ معظمهم نزح من العراق وسوريا، وانتقل إلى ساحل المتن بعد الأحداث الأخيرة. هم جاءوا يتضّرعون إلى الربّ ليُشفق عليهم ويخلّصهم من آلام المخاض الذي يثقل كاهلهم بعدما هاجمتهم «داعش» فجأة من دون أيّ إشارة استباقية تنذرهم بالمآسي التي في انتظارهم.

لحظة الهجوم، توجّه كثيرون إلى مدينة الحسكة، ولجأوا الى مطرانية الطائفة الآشورية، فيما لجأ البعض الآخر إلى أقاربه. همّهم الأول كان الخلاص من الموت، وتأمين القدرة على الاستمرار. ولمّا قست عليهم الحياة في الحسكة، انتقلوا الى لبنان، حيث استقبلهم اقرباؤهم وأصدقاؤهم اللبنانيون الآشوريون أو الآشوريون من غير اللبنانيين.

وهذه حال الشاب أديب كاكو الذي وصل منذ بضعة أيام إلى لبنان مع زوجته وأولاده الثلاثة من محافظة الحسكة، على أمل أن ينتهي من المعاملات الضرورية التي تمكّنه من السفر إلى أوستراليا.

يخبر كاكو حكايته لـ«الجمهورية» وما حصل معه: «الوضع كان سيّئاً جدّاً»، إذ دخل «داعش» علينا ليلاً وبالكاد أخذنا بعض أغراضنا ولذنا بالفرار متجاوزين نهر الخابور. هناك بقينا يومين وبعدها نزلنا إلى الحسكة، من دون أن يساعدَنا أحد، وانتقلنا في الطائرة من القامشلي إلى الشام ودخلنا حدود المصنع، ونحن نعيش راهناً لدى أقربائنا إلى حين إنجاز المعاملات للرحيل إلى بلاد الإغتراب». غابريال دولافيس وصل وأطفاله الصغار منذ أربعة أيام إلى لبنان حيث يقيم لدى اقربائه.

رغبة غابريال القوية بالعودة إلى قريته التي اشتاق إلى هوائها تصطدم بواقع مرير يروي عنه بكلمات قليلة: «نريد العودة إلى بلدنا الأم، لكنّ الواقع المرّ يفرض علينا الرحيل إلى السويد أو ألمانيا لنبدأ حياة جديدة». أمّا ابراهيم زيّحجد فيؤكد أنّه سيبقى في لبنان حتّى يتأمّن سفره إلى أوستراليا، مشيراً إلى أنّ «الدّولة اللبنانية لم تقدّم التسهيلات اللازمة للإقامة، والمساعدات طفيفة لا تؤمّن عيشة كريمة».

تسهيلاتٌ طفيفة

لكن ماذا عن الآشوريين الذين لا أقاربَ لهم في لبنان؟ هؤلاء يبلّغون الكنيسة الآشورية بأنْ لا إمكانات لديهم للعيش، فيسجّلون أسماءهم لتساعدهم الكنيسة مقدار المستطاع علماً أنّها تعيش صعوبة وحياةَ تقشّف و»أعطنا خبزنا كفاف يومنا»، فلا مدخول لها أو أوقاف أسوة ببقيّة الكنائس.

منذ بداية الأزمة السورية عام 2011 وحتى أواخر عام 2012، بلغ عدد الآشوريين النازحين الى لبنان نحو 2500 عائلة، هاجرت منها 300 الى 400 عائلة. لكن، بعد الأحداث الأخيرة في الحسكة، وصلت نحو 50 عائلة فقط برّاً، نظراً لصعوبة التنقل نتيجة وجود حواجز عدّة: الحاجز السوري، «داعش»، «جبهة النصرة» وغيرها.

في هذا السياق، يقول الخور اسقف يترون كوليانا لـ»الجمهورية»: «بعدما اطّلَعنا على وضع الأشوريين الصعب في محافظة الحسكة، أجرينا الاتصالاتِ اللازمة وأرسلنا التوجيهات إلى رئيس الطائفة الآشورية متروبوليت مارمير الزيا، ورئيس أبرشية أوستراليا – نيوزيلندا ولبنان، وزرنا كذلك وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس ووزير الداخلية نهاد المشنوق، لكنّ الزيارة القيّمة كانت للمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي وعَد بتسهيل فتح الحدود اللبنانية أمام الآشوريين، على رغم وجود مليون ونصف مليون سوري في لبنان، لأنّ المساعدة تدخل في إطار الحاجة الإنسانية والرّحمة والشفقة، ولأنّ عددهم لن يؤدّي إلى خضّة ديموغرافية».

ويشرح كوليانا أنّ «إشارة الدخول تُعطى لأسبوع، وعلى رغم أنّ اللواء ابراهيم وعدَ بتسويةٍ تبقيهم من 3 الى 6 أشهر، إلّا أنّ الإقامة تبقى موقتة، ويعجز الآشوريون عن دفع بدلات إيجار السكن المرتفعة، وعن تأمين الحاجات الطبية للأمراض المزمنة التي قد يعانيها بعضهم، ما يُفقدهم الأمل في البقاء بلبنان ويدفعهم إلى مغادرته بحثاً عن الأمان والاستقرار في دول أوروبية تعطيهم حقّ الاقامة، ولا سيما منها ألمانيا، السويد، وأوستراليا»، مؤكّداً أنّ «الكنيسة لا ترغب لا بل ترفض رحيل الآشوريين ولكنّ الدولة اللبنانية تكتفي بالتسهيلات الطفيفة».

وكوليانا يشدّد على «ضرورة تقديم المساعدة للآشوريين الآتين إلى لبنان لأنّ الكنيسة لا يمكنها تحمّل العبء وحدها»، لافتاً إلى أنّ «كنيسة السريان الكاثوليك هي الوحيدة التي تواصلت معنا من خلال البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، في حين أنّ الكنائس الأخرى لم تسأل ولم تهتمّ، حتى إنّها لم تتضامن معنا، فيما قدّمت لنا مؤسسة ITC المساعدات وأرسلت وزارة الشؤون الإجتماعية موفداً عنها لمعرفة ما هو مطلوب للمساعدة».

ويشير إلى أنّ «الآشوريين في حالٍ نفسية صعبة، يعانون من الضياع ولا يصدّقون ما حصل معهم، لأنّهم مسالمون بطبيعتهم، هم لم يتوقّعوا هجومَ «داعش»، خصوصاً بعدما طمأنتهم التنظيمات الإسلامية التي كانت تدخل إلى ضيعهم وتشتري من دكاكينهم ثمّ ترحل دون أن تؤذيهم.

فالآشوريون كانوا يعيشون بسلام مع المسلمين ومنذ العام 1933، يتشاركون الأفراح والأحزان، ولا علامة لخلافات طائفية، وبالتالي هم يعتقدون أنّ غرباء اعتدوا عليهم لأنهم يتكلّمون لغاتٍ أجنبية، ولكن بمجرّد دخول الغريب الى الضيع الآشورية لم يعد باليد حيلة أمام المنتمين الى التنظيمات الإسلامية سوى مشاركتهم في الاعتداء إذ إنهم في حال حرب».

ويعبّر كوليانا بحسرة أنّ «الآشوريين يعيشون كلّ يوم بيومه رافعين صلاتهم إلى الله «أعطنا خبزنا كفاف يومنا من دون أن يقطعوا الأمل بالعودة الى بلادهم»، مشدِّداً على أنّ «المسيح يجب أن يكون في القلب والمعاملة، وعلى كنائس الطوائف الكبيرة مساعدة تلك الصغيرة». ويضيف: «إذا واصل المسيحيون اعتماد التقسيم بين طوائف كبرى وصغرى، سنصبح نقطةً في البحر».

الإنتقال إلى مكانٍ أكثرَ أمانة

كان الآشوريون يتمركزون في شمال العراق وجنوب إيران وشرق تركيا وشرق سوريا، وبعد الحرب العالمية الأولى قسّمت البلدان وبدأوا يواجهون الاضطهادات من تركيا – أتاتورك والحكومات العراقية، فهاجر بعضهم الى روسيا وجورجيا وأرمينيا. وبعد الثورة البولشيفية انتشر الجوع وهربوا من روسيا الى لبنان ولكنّهم لم يستثمروا المال لشراء الأراضي والممتلكات لأنّ نيّتهم كانت دائماً العودة إلى بلدهم.

في العام 1933 وبعد مجزرة سيمالي في شمال العراق نزح قسمٌ آخر الى سوريا ومكث في مخيّمات في الحسكة (نهر الخابور) في ظلّ الإنتداب الفرنسي. وعند نيلهم الجنسية انخرطوا في الحياة السورية وعملوا في الزراعة.

أما مَن نزحوا الى لبنان، فعادوا وهاجروا بعد الحرب اللبنانية (1975 – 1990) الى أوستراليا وأميركا واوروبا، فقلّ عددهم، ليصبح الباقون لبنانيين عملاً بمرسوم التجنيس عام 1993.

إلّا أنّ وضع الآشوريين ازداد سوءاً مع سقوط نظام صدام حسين نتيجة طغيان الفكر الإسلامي، إلى أن لجأوا أخيراً إلى لبنان للإحتماء من نار ذلك الطغيان، وللإنتقال إلى مكانٍ أكثر أماناً.

صفةُ لاجئ!

في هذا الإطار، يقول رئيس الإتحاد الأشوري العالمي في لبنان سارغون موروكيل لـ»الجمهورية» إنّ «الآشوريين أتوا إلى لبنان لأخذ صفة لاجئ من الأمم المتحدة حتّى يرحلوا إلى أوروبا، لكنهم يواجهون بعض الصعوبات نظراً لوضعهم المادي المتأزّم، إذ يحتاجون الى كفيل ليتمكّنوا من الدخول»، مشيراً إلى أنّ «الوزير المشنوق واللواء ابراهيم وعدا بتسهيل دخولهم، وقريباً سينتقلون جميعهم إلى لبنان».

ويضيف: «يواجه الآشوريون مشكلات عدّة في لبنان، لأنّهم من عائلات فقيرة يعملون أساساً في الزراعة والفلاحة ولا يمكنهم تسديدَ بدلات الإيجار المرتفعة أو الدفع لنيل خدمات الطبابة، وسيبقون زوّاراً طالما أنهم لا يملكون الجنسية اللّبنانية، وسيعتمدون على مساعدات أقربائهم في الخارج، لذلك يفضّلون الحصول على ورقة ثبوتية من الأمم المتحدة بأنهم لاجئون ليملأوا طلبات هجرة».

ويؤكد موروكيل أنّ «إمكانات الكنيسة محدودة جدّاً والاتكال الأكبر هو على مساعدات المنظّمات الدولية مثل كاريتاس والصليب الأحمر»، لافتاً إلى «بعض المبادرات الفردية لأشخاص لبنانيين يتصلون بالمطرانية للمساعدة».

ويرى أنّ «العائلات في وضعٍ حرج، بعدما تركت اراضيها ومنازلها، وأقرباءها المحتجزين لدى التنظيمات الأصولية». ويضيف: «خسر الآشوريون كلّ شيء، حتى آثارهم في مدينة نمرود التي تعود إلى 6 آلاف عام قبل المسيح، فيا ليتها بقيت في المتاحف الأوروبية (اللوفر ولندن) لكنّا حافظنا عليها على الأقلّ»، مناشداً المجتمع الدولي الخروج عن صمته «لأنّنا من أوائل الشعوب قبل العرب والاسلام، لذلك لا يمكن تفريغ الشرق من المكوّن المسيحي الأساس وذلك ضماناً لبقائنا في لبنان».