IMLebanon

من المسؤول عن الانهيار؟

 

 

دخل لبنان منذ أشهر في انهيار مالي كبير، ولا بوادر حتى الساعة تفيد بأنّ طريق الخروج من هذا الانهيار سالكة، بل على العكس كل المؤشرات تدلّ الى انّ الوضع يخطو خطواته الثابتة باتجاه الانهيار الشامل.

يرتِّب الانهيار الحاصل مسؤولية سياسية، وربما قضائية، على القوى التي أوصَلت لبنان إلى هذا الانهيار، وفرّطت بالمسؤولية الملقاة عليها. ومحاولات تضييع «الشِنكاش» وتمييع الحقائق وتحريف الوقائع للتهرّب من الحالة الكارثية التي حلّت بلبنان لا يجوز ان تمرّ مرور الكرام، وإذا كانت الإرادة الشعبية هي المخوّلة محاسبة مَن أخطأ بحقها وحقّ البلد في صناديق الاقتراع، إلا انه يجب ان تكون الأمور واضحة وجليّة بأنّ هذا الانهيار لم يحصل عن طريق الصدفة، إنما ثمة مسؤولية واضحة ومباشرة على هذا الفريق أو ذاك الذي لم يكن أهلاً للمسؤولية.

وقد اعتاد أكثر من فريق في لبنان بحجج مختلفة؛ سياسية وطائفية غالباً، التهرُّب من تحمُّل المسؤولية، وإذا كان هذا الأمر مبرراً بشكل أو بآخر في مراحل مختلفة بسبب الصراع السياسي والانقسام العمودي وطبيعة المجتمع اللبناني التعددي الذي يستدعي التعامل على قاعدة 6 و 6 مكرر ولا غالب ولا مغلوب، إلّا انّ السبب المباشر للانهيار هذه المرة هو مالي بامتياز بفِعل الفشل في إدارة الدولة، وهذا لا يعني أن لا أسباب سياسية للانهيار وتتعلّق بتَموضع لبنان الاستراتيجي والسياسة الخارجية المتّبعة ومعاداة الدول الخليجية والتدخّل في صراعات المنطقة وإبعاد الاستثمارات عن لبنان بفِعل تَحوّله إلى ساحة مضطربة وغير مستقرة.

وعلى رغم الارتباط العضوي والبنيوي بين ما هو سياسي ومالي- اقتصادي، إلّا انه كان يمكن للأكثرية الحاكمة لو اعتمدت إدارة الحد الأدنى للدولة أن تجنِّب لبنان هذا الانهيار الكبير، ولكنها لم تفعل بسبب قلة درايتها بشؤون المال والاقتصاد، وعدم استشرافها خطورة ما ستؤول إليه الأمور في حال عدم المعالجة سريعاً ربطاً بالأرقام المالية التي كانت تؤكد هذا المنحى، وعدم إلمامها بالإدارة الرشيدة، وتَبديتها لمصالحها ومكاسبها وأولوياتها الصراعية على مصلحة الدولة والناس.

وإذا كانت محاسبة من أدخل لبنان في الحرب في العام 1975 وانهيار الدولة وتفككها متعذرة بسبب التعقيدات السياسية، وتحديداً الطائفية، والانقسام بين جبهتين ومحورين طائفيين، فإنّ ما ينطبق على انهيار الدولة من الباب السياسي لا ينسحب على انهيارها من الباب المالي، لأنه في الأولى انقسمت المجموعات على بعضها وانفَرزت المناطق وأصبح وجود الدولة صوَرياً. بينما في الثانية، وعلى رغم الانقسام السياسي، ظلّت الدولة موحّدة وغير منقسمة، وشَكّل التعايش عنوان كل المرحلة الممتدة منذ العام 2005 والتي كان فيها فريق 8 آذار مُمسكاً بمفاصل هذه الدولة، فيشلّ المؤسسات ويعطّلها اعتراضاً على توجه معين أو منعاً لتمرير قانون محدد، ويستخدم سلاحه متى وجد انّ التعطيل المؤسساتي لم يعد كافياً، ويمنع اي توجّه إصلاحي للدولة، ويمسك بمفاصل القرار في الدولة.

فالقرار السياسي للدولة منذ العام 2005 هو بيَد «حزب الله» على غرار ما كان عليه منذ العام 1990 عندما كان بيَد النظام السوري، وقمة التذاكي في إبعاد التهمة عن رأس النظام السوري وتحميلها للموظفين في هذا النظام، فيما الجميع يدرك انّ هذا الرأس لا تجري المياه من تحته وكان الآمر والناهي في كل شيء، ولكن هذا لا يعفي طبعاً القوى السياسية الحزبية الأساسية التي تعاونت مع النظام السوري، إنما لا يعفي في المقابل حلفاء هذا النظام الذين يحاولون التبَرؤ من المسؤولية برَميها على غيرهم، فيما كان باستطاعتهم، لو أرادوا، توقيف اي توجه وتعطيله، وبالتالي هم شركاء في كل المرحلة السابقة.

وأمّا في مرحلة ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان فأمسك «حزب الله» ومن معه من قوى سياسية بقرار الدولة ومن ضمنهم «التيار الوطني الحر»، وإذا كان الأخير لا يتحمّل مسؤولية السياسات المالية بين عامي 1990 و2005، فإنه بعد هذا التاريخ أصبح من اللاعبين الأساسيين إلى درجة انّ الحكومات كان يتأجّل تأليفها إلى حين موافقته، هذا عدا عن تغطيته لكل قرارات تعطيل المؤسسات وشلّها وإدخال البلد في فراغ ما بعده فراغ في محطات عدة.

وفي موازاة كل ذلك، فإنّ «التيار الوطني الحر» وصل إلى أرفع موقع في الجمهورية اللبنانية، وكان لرئاسة الجمهورية للمرة الأولى منذ العام 1990 سلطة فعلية من خلال أكبر كتلة نيابية ووزارية، وكان باستطاعة التيار، إن بفِعل حَيثيته التمثيلية، أو لجهة تحالفاته التي تبدأ من «حزب الله» ولا تنتهي بالقوى التي ساهمت في انتخابه، أن يفرض إيقاعه في الممارسة السياسية، وأن يجنِّب لبنان الانهيار المالي، وكان له المُتّسَع من الوقت لينقل لبنان إلى شاطئ الأمان، ولكنه بدلاً من ذلك دخل العهد أو الرجل القوي فيه في مواجهات مفتوحة مع معظم القوى السياسية محوّلاً هذا العهد إلى حلبة مواجهة وعدم استقرار فَوّتت على لبنان واللبنانيين فرصة جدية للإنقاذ، وسَرّعت في انهياره.

فلا يستطيع العهد ان يرفع المسؤولية عن نفسه ويرميها على الآخرين بحجّة عرقلته، أو بذريعة تحميلها لسياسات سابقة، كما لا يستطيع «حزب الله» ان يتبرّأ من سياسات العهد السوري، ولا من سياسات عهده الذي بدأ مع الخروج السوري من لبنان وتوِّج بانتخاب عون رئيساً للجمهورية، وبخاصة انّ الانهيار حصل في عهد الرئيس عون.

وإذا كانت الأرقام المالية تؤرّخ بداية التراجع المالي المخيف مع إسقاط الحزب لحكومة الرئيس سعد الحريري الأولى ووضع يده على البلد بشكل كامل، فإنّ سياسة ربط النزاع أو التعايش التي استؤنِفت مع حكومة الرئيس تمام سلام في الأشهر الأخيرة قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، كان يمكن أن تعيد الانتظام للمالية العامة لولا مواصلة فريق 8 آذار سياسة التفريغ نفسها وإعطاء الأولية لنفوذه وتحصين إمساكه لمفاصل الدولة على الأولوية المالية والاقتصادية.

فهذا الفريق السياسي يتحمّل مسؤولية مزدوجة: مسؤولية ضرب علاقات لبنان الخارجية التي كانت تؤمن للبنان مظلة أمان مالية، كما إبقاء الاستقرار هشّاً بما يُبعد الاستثمار، ومسؤولية فشله في إدارة الدولة وتبديده لكل الفرص التي كانت مُتاحة للإنقاذ. وبالتالي، يتحمّل هذا الفريق مسؤولية الانهيار الحاصل، ولا يعقل لمَن قاد لبنان إلى الانهيار ان يستمر في مواقعه السلطوية وكأنّ شيئاً لم يكن.

ولا يُعقل انتظار محاكمة الشعب في صناديق الاقتراع باعتبار انّ الانتخابات المبكرة مستبعدة بسبب رفض فريق 8 آذار وأزمة كورونا، فيما البلد على مسافة خطوات قليلة من الانهيار الشامل ولا يحتمل الانتظار. وبالتالي، المخرج الوحيد هو في تَنحّي هذا الفريق عن السلطة بعدما أظهَر عدم أهلية في قيادة السفينة اللبنانية، كما لا يفترض أيضاً إهمال احتمال ان يكون الفريق نفسه يريد جَرّ لبنان إلى الفوضى من أجل تضييع المسؤوليّة والهروب من محاكمة الناس والقضاء، ولكن الأساس في كل هذا المشهد انّه على المواطن اللبناني ان يعرف جيداً انّ مسؤوليّة الانهيار يتحملها فريق 8 آذار والعهد الذي يشكل جزءاً لا يتجزّأ منه.