IMLebanon

مسؤولية الرئيس، وتعليق الدستور

 

نهاية الشهر المنصرم، وبعد إنقضاء عام على إنفجار المرفأ، بادرت كتلة نيابية وازنة، إلى التقدُّم بطلب إعادة نظر بالدستور، خُلاصته تعليق العمل ببعض مواده، أهمّها نصّ المادة /60/ منه، المتعلّقة بمسؤولية رئيس الجمهورية.

 

وبرّرت هذه الكتلة إقتراحها، بوجوب تحميل الكافة المسؤولية، بِمَن فيهم رئيس الدولة، مُتغافلةً أنّ الدستور وُضع لِيُحترم ويُطبّق، وليس لِيُعلّق عند كل مُفترق وأمام كل أزمة. مُتذرّعةً بوجوب تحقيق المساواة في الملاحقة، بين رئيس الدولة وباقي المسؤولين (أي وضعهم جميعًا على مركبٍ واحد)، مُتجاهلةً أنّ هذه القاعدة لا تستقيم بِعِلم الجريمة، فلا مساواة في المسؤوليات، فَمَن إرتكب يُلاحق، ومَن لم يرتكب لا تِبعة عليه. والمسؤول يُحاسَب، على قدر مسؤوليته، وليس على قاعدة المساواة في المقامات.

 

لكن الأهّم من كل شيء يَبقى، أنّ الدستور وتحديدًا المادة /60/ منه، نصّ صراحةً على مسؤولية رئيس الدولة، وعلى تحميله تبعة أية جريمة عادية يرتكبها. فلماذا تعليق المادة المذكورة ؟؟ إلاّ إذا كان الهدف من ذلك «تكبير الحجر» تضييعًا للمسؤوليات، تمهيدًا لمقايضات وتسويات مُحتملة ومُنتظرة، تخنق الحقيقة وتُجهضها.

 

فالمادة /60/ من الدستور نصّت صراحةً، أنّ لا تِبعة على رئيس الدولة، حال قيامه بوظيفته، إلاّ عند خرقه الدستور أو الخيانة العُظمى.

 

ولكنها نصّت وفي الفقرة الثانية منها، أنّ رئيس الدولة يبقى مسؤولاً عن الجرائم العادية والتي يرتكبها، فهي خاضعة للقوانين العادية. لكن ليس بالإمكان إتّهامه بأي من هذه الجرائم إلاّ من قِبل مجلس النوّاب بأكثرية الثلثين، ولا يُحاكم إلاّ أمام المجلس الأعلى.

 

وبقراءة ملتوية لأصحاب إقتراح التعليق يعتبرون، أنّ المقصود بالجرائم العادية، هي الأفعال التي يرتكبها رئيس الدولة بحياته الشخصية والخاصة حصرًا (كالصفعة، والتي وجّهها الرئيس الراحل الياس الهراوي، نهاية شهر حزيران من العام /1998/ للصحافي «حسن صبرا» رئيس تحرير مجلّة «الشراع» اللبنانية).

 

فيما الواقع، يختلف عن ذلك.

 

لأنه، وبحال أَرَدْنا أن نُفسّر نصّ الفقرة الثانية من أحكام المادة /60/ من الدستور، تفسيرًا صحيحًا، وَجُبَ علينا أن نُفسّرها بالتوازي مع نص المادة /61/ منه، والتي تنُصّ أنّه وَحين يتّم إتّهام رئيس الدولة بأي من الجرائم (الوظيفية أم العادية) تُكّف يده، إلى أن يفصل المجلس الأعلى بالقضية.

 

فهل هذا يعني، أنّه لو بادر الصحافي «حسن صبرا» عام /1998/ إلى الإدّعاء على الرئيس الياس الهراوي بِجُرم «الصفع» وتحرّك مجلس النوّاب، لَكانت كُفّت يد رئيس الدولة عن إدارة البلاد والعباد، حتى الفصل بالقضية من قِبَل المجلس الأعلى؟؟؟

 

مما يُفيد، أنّ الجرائم العادية، والتي قَصَدها المُشترِع، تتخطّى مفهوم الجرائم والتي يرتكبها رئيس الدولة في حياته الشخصية اليومية.

 

لم يحصل بتاريخ الدولة اللبنانية، أن إتُّهم رئيس الدولة بجريمة عادية، حتى يُحدّد الإجتهاد القضائي موقفه منها. لكن بالعودة إلى ملاحقة الوزراء، عرّف القضاء الجريمة العادية، والتي هي من إختصاص القضاء العدلي، وفرّقها عن الجريمة الوظيفية، والتي حصرها بالمجلس الأعلى.

 

وبالتالي، وعلى سبيل القياس، يمكن تحديد مفهوم الجريمة العادية وتعريفها، إستنادًا إلى الأحكام القضائية التي صدرت بملفّات قضائية، كانت عالقة أمام القضاء بحّق وزراء.

 

حاول أصحاب إقتراح تعليق نص المادة /60/ من الدستور التسويق أنّ الجرائم العادية والمنصوص عنها في الفقرة الثانية من المادة /60/ محصورة فقط بالأفعال الشخصية اليومية حصرًا، وذلك لِتبرير طلب إعادة النظر. فيما الواقع هو خلاف ذلك.

 

تضارب الإجتهاد في تعريف «الجرائم العادية». وأمام هذا التخبُّط، جاءت قضية دولة الرئيس «فؤاد السنيورة» في ملّف (محرقة برج حمّود)، فبعد أن إعتبر قاضي التحقيق أنّ الأفعال المنسوبة إلى دولته يومها تُشكّل جرائم عادية وليست وظيفية، وصدّقت الهيئة الإتّهامية على القرار المذكور، صار تمييز قرار الهيئة الإتّهامية أمام جانب محكمة التمييز الجزائية، التي بادرت إلى رفع كامل الملف إلى الهيئة العامة لمحكمة التمييز (أي الهيئة القضائية العُليا، المؤلّفة من كافة رؤساء الغُرف التمييزية)، للبّت والفصل بشكل نهائي، بتعريف «الجرائم العادية».

 

وبتاريخ 27/10/2000 أصدرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز قرارها النهائي وقضى:

 

– بتوسيع دائرة «الجرائم العادية»، بحيث لم تعد تقتصر على الجرائم التي يرتكبها الوزير كمواطن عادي في حياته الخاصة فَحَسْب. بل إمتدّت أيضًا إلى الأفعال التي يرتكبها في «مَعرض» ممارسته لمهامه الوزارية. والتي تتّصِف بالأفعال الجُرمية الفاضحة، والتي يُعاقب عليها قانون العقوبات اللبناني.

 

ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحدّ، فأصدرت محكمة التمييز الجزائية (غرفة الرئيس لبيب زوين) بتاريخ 7/6/2004 في قضية الوزير «علي عبد الله» (والذي أُوقف لمدة 6 أشهر) في ملف فضيحة «الأبقار»، قرارًا إعتبرت فيه أنّ جرائم «توطين خط هاتف جوّال على حساب الوزارة، وإستعمال كمّية من المحروقات، وتسديد بدل إقامة في فنادق، وصرف مدفوعات دون سند، وتسليم أبقار مستوردة إلى أشخاص وهميين، وتقاضيه عمولات، وبيع مواشٍ وأبقار (بصفته وزيرًا للزراعة) دون عقود….كذا….» الأفعال المُعاقب عليها في قانون العقوبات اللبناني، والتي إقترفها الوزير المذكور، في معرض ممارسته لمهامه الوزارية. كلّها جرائم عادية وتخضع للقضاء العادي.

 

وبالتالي، لا جدوى من تعليق المادة /60/ من الدستور، إلاّ إذا كان الهدف من ذلك عرقلة التحقيق. لأنّه وفي حال إرتأى المحقق العدلي وجوب الإستماع إلى رئيس الدولة، فما عليه إلاّ الإنتقال إلى مقرّه في بعبدا (المادة /85/ أ.م.ج.) لإستماعه، كما جرى مع «الرئيس إميل لحّود» الذي زاره المحقق الدولي «ديتليف ميليس» أكثر من مرّة، في إطار قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي حال تبيّن له أنّه يتحمّل مسؤولية أي جُرم جزائي إرتكبه في «معرض» ممارسته لمهامه ووظيفته، وإتّصف فِعله، بالفعل الجرمي الفاضح، المُعاقب عليه في قانون العقوبات اللبناني. فما عليه إلاّ مخاطبة مجلس النوّاب لإجراء اللازم، موّضحًا الشبهة، مُبيّنًا الأدّلة، ملتمسًا إجراء اللازم. عملاً بأحكام الدستور والقوانين المرعية الإجراء. لاسيما، وأنّ رئيس الجمهورية ووفقًا لأحكام الدستور اللبناني لا يملك أي حصانة جزائية تعفيه من تحميله المسؤولية.

 

وفي الختام، لا يجب علينا أن ننسَى، أنّ الهدف الأساسي يبقى جلاء الحقيقة وتحقيق العدالة. فلا خيمة فوق رأس أحد، ولا يجب أن نقبل بأي مناورة أو محاولة لتمييع التحقيق وإجهاضه، أو الإلتفاف عليه، أو عرقلة سير العدالة. فالخطوة الأولى تبدأ برفع الحصانات عن الوزراء النوّاب، وتبقى الكُرة في مرمى رئيس مجلس النوّاب، والمادة /93/ من النظام الداخلي صريحة وواضحة بهذا الشأن.

 

فلا تسوية أو مقايضة على حساب دماء الشهداء لا من قريب أم بعيد.

حمى الله لبنان، حمى العدالة، حمى الحقيقة وحمى المُحقّق العدلي.