IMLebanon

“التغيير” اللازم والمُمكن

 

مع كلّ تكليف شخصية تأليف الحكومة تدخل عملية التأليف في مخاضٍ طويل وصعب قبل أن تبصر الحكومة النور. فمن جهةٍ لا يلتزم المعنيون الدستور روحيةً ونصاً، ومن جهةٍ ثانية تنطوي المواد التي تتناول التأليف على غموض وثغرات تترك هامشاً للمعنيين للمناورة والمماطلة والتعطيل. وعلى رغم من ذلك لم يعمد أي مجلس نيابي الى تعديل هذه المواد بحيث تصبح واضحة وحاسمة وجازمة ومُقيِّدة للمسؤولين، خصوصاً لجهة المهل، سواء على مستوى التكليف أو التأليف.

يحدّد الدستور آلية التكليف والتأليف في المادتين 53 و64، كالآتي:

 

– المادة 53:

الفقرة الثانية: یسمّي رئیس الجمهوریة رئیس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئیس مجلس النواب استناداً الى استشارات نیابیة ملزمة یطلعه رسمیاً على نتائجها.

الفقرة الثالثة: یصدر رئيس الجمهورية مرسوم تسمیة رئیس مجلس الوزراء منفرداً.

الفقرة الرابعة: یصدر رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئیس مجلس الوزراء مرسوم تشكیل الحكومة.

 

– المادة 64 – الفقرة الثانية: يُجري رئيس مجلس الوزراء الاستشارات النیابیة لتشكیل الحكومة ویوقّع مع رئیس الجمهوریة مرسوم تشكیلها. وعلى الحكومة أن تتقدّم من مجلس النواب ببیانها الوزاري لنیل الثقة في مهلة ثلاثین یوماً من تاریخ صدور مرسوم تشكیلها. ولا تمارِس الحكومة صلاحیاتها قبل نیلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقیلة إلّا بالمعنى الضیق لتصریف الأعمال.

 

وبالتالي، يُبقي الدستور، على رغم التعديلات التي أُدخلت إليه بموجب «اتفاق الطائف»، صلاحية أساسية في يد رئيس الجمهورية، إذ من دون توقيعه وموافقته على تشكيلة حكومية يقدّمها إليه الرئيس المكلف، لا تولد الحكومة. وهذا ما عرقلَ عمليات تأليف عدة، أحدثها اعتذار الرئيس سعد الحريري عن التأليف في 15 تموز 2021 بعد نحو 9 أشهر على تكليفه التأليف في تشرين الأول 2020، وذلك جرّاء عدم توقيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أي تشكيلة قدّمها إليه، قبل أن يجري تكليف الرئيس نجيب ميقاتي وينجح في مهمته بتأليف الحكومة الرابعة في عهد عون والتي تصرّف الأعمال الآن. وبالتالي، لرئيس الجمهورية دور أساسي في التأليف، وهو والرئيس المكلف محكومان بالتفاهم والتوافق لاستيلاد حكومة، بموجب الدستور. لذلك يُمكن لأي رئيس جمهورية أن يستخدم هذه الصلاحية لتأخير التأليف وعرقلته والضغط على الرئيس المكلف للوصول الى تشكيلة ترضيه وإلّا لا يوقّع مرسوم تأليفها. بدوره، يُمكن الرئيس المكلف أن لا يتجاوب أو يتفاهم مع رئيس الجمهورية وأن يستنزف وقتاً من عهده من دون التأليف، وبالتالي أن يضغط عليه ليقبل بتصوّره الحكومي.

 

هذا التعطيل المتبادل، والذي سبق أن مورِس، ويتوقّع البعض أن يُمارَس الآن بين عون وميقاتي، مردّه الى أسباب وأهداف سياسية و»خيانة» و»مخالفة للدستور» من قبل المعنيين، بحسب دستوريين، فيما يرى آخرون أنّ الدستور أو المشرِّع لا يُمكنه الرهان على «أخلاق» و»حسن نية» المسؤول، بل يجب أن يكون واضحاً وبسيطاً ومَرناً وحاسماً، بحيث لا تشوبه ثغرات يتسلّل منها المسؤولون لتغليب مصالح حزبية وشخصية على المصلحة العامة. وبالتالي، يجب الذهاب في اتجاه تعديل الدستور لجهة المهل، وتحديد مهلة للتكليف وأخرى للتأليف، إذ إنّ دستورنا المعمول به لا يحدّد مهلة لرئيس الجمهورية لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية التأليف، ولا يحدّد مهلة لإنجاز التأليف، كذلك لا ينصّ على إمكانية عزل الرئيس المكلف أو سحب التكليف منه، ما يترك مهلة التأليف مفتوحة على غاربها. لكن هذه المهلة أيضاً تفتح باباً آخر للنقاش والخلافات إذ إنّ تحديد مهلة للتأليف يعني بالنسبة الى جهات سياسية ودستورية، تقييد الرئيس المكلف فيما قد لا يكون هو مُعرقل التأليف بل رئيس الجمهورية.

 

هذا الأمر سبق أن طُرح في مداولات مؤتمر الطائف عام 1989، إذ اقترح الوزير الأسبق المرجع الدستوري إدمون رزق وجوب تحديد مهلة زمنية للتأليف بعد التكليف، فردّ عليه رئيس الحكومة الأسبق الراحل صائب سلام، وقال: «قد يمتنع رئيس الجمهورية مرّة بعد أخرى عن الموافقة على التشكيلة التي يقدّمها إليه رئيس الحكومة المكلف في انتظار انقضاء هذه المهلة حتى يكلّف غيره، فهذا يترك مجالاً لرئيس الجمهورية بأن يتحكّم بالرئيس المكلف، بينما إذا بقيت هذه المهلة مفتوحة، تؤلّف الحكومة بالتوافق ولا يصبح لدى رئيس الجمهورية إمكانية لأن يؤجّل حتى تنقضي المهلة».

 

إنطلاقاً من ذلك، يعتبر دستوريون أنّ الحلّ يَكمن في أن يَعمد رئيس الجمهورية، بعد انقضاء فترة «معقولة» على التأليف وتعذُّر التوافق بينه وبين الرئيس المكلف، الى أن يوقّع التشكيلة التي يقدّمها إليه الرئيس المكلف، إنطلاقاً من أنّ الأخير كُلّف إثر استشارات نيابية والحكومة لا تمارس صلاحياتها قبل نيلها الثقة من مجلس النواب، وبالتالي على رئيس الجمهورية أن يلتزم الاسستشارات وأن يَحتكِم الى مجلس النواب في موضوع التشكيلة الوزارية، فإمّا يقف المجلس مع رئيس الجمهورية ويحجب الثقة عن هذه الحكومة وإمّا يمنح الرئيس المكلف وحكومته الثقة.

 

في المقابل، ترى جهات أخرى أنّ الفقرة الرابعة من المادة 53 تنصّ على آلية واضحة للتأليف، لجهة أنّ رئيس الجمهورية يصدر مرسوم تأليف الحكومة بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء. وهذا يعني أنّ أحداً من المرجعيتين لا يستطيع أن يتفرّد بالتأليف، لأنّ توقيع كلّ منهما مرسوم تأليف الحكومة إجراء جوهري. لكن على رغم ذلك، تبيّن إثر الممارسة والتجارب منذ عام 1990، أنّ الدستور فيه ما يكفي من آليات التعطيل في حال كان هناك سوء نية لدى المسؤولين المعنيين.

 

لذلك ترى جهات عدة أنّ «التغييريين» في المجلس النيابي الجديد وبقية الكتل النيابية أمامها استحقاق وتحدٍّ جدّي وملحّ لإثبات النية في «التغيير»، عبر الضغط والدفع لمعالجة الثغرات الدستورية التقنية أقلّه، لأنّ موضوع الصلاحيات قد لا يكون من السهل طرحه، لكن يُفترض بالحد الأدنى أن يجري الحدّ من الفراغ على مستوى المؤسسات الدستورية، لا سيما منها السلطة التنفيذية، فمنذ عام 1990 يغرق البلد في أزمات متكرّرة بخلفية دستورية، ويجب سحب فتيل هذه الأزمات أو «حجّتها».