IMLebanon

الدفاع عن القضيّة وصمود لبنان الكبير

عرفت الكنيسة حركة التلاقي بين الثقافات واختبَرتها منذ نشأتها ومنذ جذور البشارة بالإنجيل. ومن ثمّ البشرى السارّة، بشرى الخلاص أي الإنجيل، التي تصل الى كلّ إنسان في عمق ثقافته والتي تؤثّر في طريقة عيشه الإيماني وتتأثر بها شيئاً فشيئاً.

من هنا يُعرّف المجمع الفاتيكاني الثاني بالثقافة بالآتي: «يمتاز الشخص البشري بأنّه لا يرتقي حقاً وتماماً الى مستوى الإنسانية إلّا عن طريق الثقافة، أي عندما يستثمر خيور الطبيعة الإنسانية وقيمها.

وكلّما دار حديثنا على الحياة البشرية، تبدو الطبيعة والثقافة مُرتبطتين ارتباطاً وثيقاً الى أبعد حدٍّ ممكن. فكلمة ثقافة تعني، بمعناها الواسع، كلّ ما يستخدمه الإنسان لصقل إمكاناته المتعددة الفكرية والجسدية وتنميتها، مجتهداً في إخضاع الكون بالمعرفة والعقل؛ مؤنسناً الحياة الاجتماعية والحياة العيلية ومجمل الحياة المدنية بفضل تقدم الأخلاق والشرائع؛ مترجماً وناشراً وحافظاً في مؤلفاته، عبر الأزمنة، الاختبارات الروحية الكبيرة ونزعات الإنسان العظمى، حتى تُستخدم لتَقَدُّم أكبر عدد من البشر، ولتقدّم الجنس البشري كله.

وينتج عن ذلك أنّ الثقافة البشرية تحمل بالضرورة مظهراً تاريخياً واجتماعياً. وأنّ كلمة ثقافة غالباً ما تحمل معنى له علاقة بعلم الاجتماع وأصل الشعوب. واستناداً الى هذا يمكن التكلّم على تعدّد الثقافات». (فرح ورجاء،53).

من هنا، أهمية الثقافة في حياة الإنسان ومسؤوليته الكبرى في تطويرها، ومسؤولية المسيحي في بناء عالمٍ يتوق إلى كمال الأنسنة ويصبو إلى إدراك الحقيقة وتثبيت العدل. وذلك لأنه ليس من ثقافة إلّا من الإنسان وبالإنسان ولأجل الإنسان.

والكنيسة في لبنان تعلّم ما تعلّمه الكنيسة الجامعة، وتتميَّز بأنها تحمل رسالة خاصة، ومن أبرز خصائصها، كما يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي «رجاء جديد للبنان»، إنها واحدة ومتعدّدة في آن. فتنوّع الكنيسة في لبنان ليس مجرَّد تنوّع قانوني، بل هو نتيجة تاريخ طويل خاصٍ بكلٍّ من تقاليد كنائسها الروحية. ويُطلب تعزيز ذهنية جديدة بحيث لا يكون الإهتمام الدائم تأكيد الفوارق، بل يكون الإهتمام الدائم تأكيد الوحدة مع احترام التنوّع». (عدد 8-9).

هذا هو مفهومنا المسيحي للتنوّع في الوحدة ولاحترام الخصوصيات في الوحدة المشتركة.

وما يُقال عن الكنيسة في لبنان في الإرشاد الرسولي، يُطبَّق على لبنان كله بصفته مثالاً ونموذجاً إذ يجمع في دولة واحدة جماعات متعددة ومتنوّعة تحترم خصوصية كلّ مجموعة.

والتعدّد الديني أو الطائفي ينتج عنه تعدّد ثقافي، من دون أن يعني ذلك إقامة حواجز ثقافية بين الطوائف. فتعدّد الآفاق ممكن ولا يجوز الخوف منه إذا رأينا في ذلك إغناءً للبنان، إذ يوقظ لدى اللبنانيين موقفين ثقافيّين مهمّين: الروح النقدية والقدرة على الحوار.

إنّ للثقافة علاقة مباشرة بالهوية، وبهوية الوطن وبالانتماء الوطني. وظنّ البعض أنّ الحديث عن التعدّد الثقافي يقود الى تعدّد الهوية، وبالتالي الى تفكّك الوطن، أي إنه عندما تتعدّد الإنتماءات يتفكّك الوطن وتتصدّع الوحدة الوطنية. هذا الطرح ينظر الى المجتمع وكأنه يصهر كلّ الناس؛ وهي نظرة أحادية انصهارية الى المجتمع.

وهذه النظرة مرفوضة اليوم في العالم وهي مرفوضة حتى في العائلة الواحدة، فلا انصهار ولا تذويب لشخصية كلّ واحد أو كلّ مجموعة. لذلك نقول إنّ التعدّد هو من سمات المجتمع اليوم. فالتعدّد يكون مقبولاً ولا يؤدي الى الانفصال والانقسام عندما نقبل الآخر كما هو، ونقبل بكلّ ما يحمل هذا الآخر من قيم ومعطيات. وهذا يعني رفضاً قاطعاً للنظرة الانصهارية التذويبية داخل الجماعات وداخل العائلة.

نحن مع الوحدة الوطنية ومع الحفاظ على خصوصية كلّ جماعة من الجماعات التي تكوّن المجتمع اللبناني، كما نحن مع وحدة العائلة ومع الحفاظ على شخصية كلّ فرد من افرادها. وهذا يعني أنّ هناك غنىً متبادلاً ينتج عن الخصوصيات. فالفرد قيمة مجتمعية قائمة بذاتها مهما كان لونه وعرقه ومعتقده وانتماؤه، فيدُنا إليه ممدودة وقلبنا له مفتوح.

ويقول قداسة البابا في الارشاد الرسولي: «ومتى تعلّم اللبنانيون أن يتعارفوا جيداً ويرضوا رضى كاملاً بالتعدّدية، وفّروا الشروط الضرورية لإقامة الحوار الحقيقي، واحترام الأشخاص والعائلات والجماعات الروحية». (عدد 92).

ويختم بقوله: «إنّ لبنان الذي يتألّف من جماعات بشرية عدة، يعتبره معاصرونا أرضاً نموذجية. وفي الواقع، اليوم كما في الأمس، يدعى فيه أناس متباينون على الصعيد الثقافي والديني الى العيش معاً، على الأرض نفسها، والى بناء أمّة حوار وعيش مشترك». (عدد 119).

هذا هو لبنان الذي عملت وتعمل على بنائه كنيستُنا المارونية بالتعاون مع المكوّنات الأخرى، مسيحية وإسلامية ودرزية، وبطاركتنا، من يوحنا مارون إلى صفير والراعي، الذين انطلقوا في رسالتهم لخدمة لبنان والعالم من قناعتين كُبريَيْن.

قناعتُهم الأولى تنبع من إيمانهم بيسوع المسيح، الراعي الصالح، الذي قاد ثورة المحبة ولم تُهرق فيها نقطة دمٍ واحدة غير دمِه والذي بذل نفسه في سبيل خرافه الموجودة في الحظيرة والتائهة خارجها.

فالمسيح لم يدعُ إلى قلب الأنظمة ولم يحرّض الغرائز الطائفية، لأنه شاء أولاً أن يعرّف الناس إلى الحق فيحرّرهم من الداخل ليصبحوا أبناء الملكوت. كلّ ذلك لأنه كان هو الحق، والحقُ سلطان السلاطين، ولأنه كان المحبة، والمحبة سيدة الأرض والسماء.

وقناعاتهم الثانية تنبع من أنّ لبنان هو أكثر من وطن؛ فهو رسالة محبة ومصالحة وتلاق في عيش مشترك وكريم وحرّ. وهذا ما يثبّته تاريخنا الطويل.

فقد اتخذت كنيستنا، منذ تأسيسها، من لبنان، الجبل معقلاً حصيناً لها تتنفس فيه الحرية، وحوّلته الى حصن يأتيه كلُّ مَن يهوى الحرية.

وحوّلته، في بدايات القرن العشرين مع البطريرك الياس الحويك الى «وطن يحترم التعددية، كما يقول الأب يواكيم مبارك، ويجمع المسلمين والمسيحيين في الحرية والمساواة… وذلك لأنّ لبنان في فهمنا الماروني هو عينه في الفهم الإنجيلي وعينه في التزام جميع اللبنانيين بلبنان.

والفهم الإنجيلي، الذي طالما ردّده على مسامعنا البابا يوحنا بولس الثاني، هو الذي يحمينا من التقوقع في الطائفية المغلقة والخلط الأصولي المرفوض أصلاً بين الدين والدولة، وهو الذي يقتضي منا الانفتاح والمشاركة والارتباط مع الغير، وهو الذي يقتضي ألّا يكون لبنان منغلقاً على ذاته بل أن يكون في تضامن أبنائه على فروقاتهم، مثالاً عالمياً للعيش الكريم الحرّ».

أصبح لبنان، كما يقول الأب ميشال الحايك، «ميثاقاً وعهداً بين أقليات بشرية وحضارية متعددة قسمت العقيدةُ الدينية لكلّ واحدة منها وجدان خاص وتاريخ مميّز وتراث متفرّد.

إنها الجماعات التي التجأت الى هنا بعدما عرّتها النكبات من كلّ شيء، حاملةً معها تراثها الروحي وهو آخر ما سَلِمَ لها من الدمار. تلاقت هنا فأدركت أنها على اختلاف مواضيها إنما جاءت هذه الأرض صوناً لذلك التراث. فصار لبنان موعد لقاء لها، فإذا هو وطنُ الأقليات بشراً ووطنُ الأكثريات حضارةً».

هذا هو لبنان باركه الله ليكون بلد التلاقي ويفسح في المجال أمام جميع أبنائه، لا للتعايش أو العيش المشترك فحسب، بل للتخاطب والتكالم والحوار البنّاء بين مختلف العقائد والآراء. إنه المختبر الوحيد في العالم، بل إنه البلد الوحيد الذي جعل وجوده قضية لأجلها كان وسيكون أو لن يكون. من دونها لا حاجة لوجوده، ومعها وجودُه ضرورة عالمية.

إنها القضية التي علينا أن نحملها معاً نحن اللبنانيين، وإنه مشروع لبنان الكبير والرهان الذي هو أعظم من أن نتخلّى عنه، مهما كانت العوائق والمخاطر، لأننا لا نردّه الى قضية عدد وكثرة، إذ إنه أولاً وآخراً قضيّةُ قِيَم تتلاقى بين ممثليها كثروا عدداً أم قلّوا.

التنوّع الديني والثقافي الذي جعل من لبنان المختبر النموذج في تلاقي الحضارات والثقافات والديانات، وجعل من اللبنانيين خبراء وروّاداً في التحاور مع احترام تنوّع الخصوصيات على رغم النزاعات التي عرفوها في تاريخهم ولها أسبابها، هو قيمة سامية نحن اللبنانيين مدعوّون إلى إحيائها وتعزيزها في تربية شبابنا وأجيالنا الطالعة.

والحروب الطالعة علينا في بلدان الشرق الأوسط ليست سوى وجهٍ من وجوه التحدّيات التي تنتظرنا في زمن العولمة وتشابك المصالح المشتركة.

فهل سيُقيَّضُ لنا أن نوّفِق ما بين مغامرة العولمة والتقدّم التكنولوجي وتطوّر وسائل الإعلام والتواصل بما تفتحه من آفاق لبزوغ عالم أفضل، وبين الحفاظ على الغنى الثقافي الذي جعل من وطننا رسالةً ونموذجاً؟

وهل سننجح في إحياء قيمة التنوّع الثقافي فنتخطّى مرحلة الدفاع عن النفس إلى حوار صريح وبنّاء، حوار الحقيقة، يغامر في التقدّم التكنولوجي ويحافظ في الوقت ذاته على خصوصيات جماعاتنا المكوّنة للوطن؟