IMLebanon

حرب غزة ظهّرت إنقسام اللبنانيين

 

مع انطلاقة الحرب على غزة واشتعال جبهة الجنوب اللبناني عاد الإنقسام من جديد ليفصل بين اللبنانيين. حروب يومية شرسة تُشنّ على الساحة السياسية كما على مواقع التواصل الإجتماعي وكأن «الحرب» تأبى أن تترك وجدان اللبنانيين فتطفو على السطح مع كل شرارة بمبررات وأسلحة وأطراف جديدة. ومع بداية العام 2024 يبدو واضحاً أن خطاب الكراهية على ازدياد وأن لبنان يتقهقر إلى الخلف في ثقافة السلام والحوار وقبول الآخر والأسباب في ذلك ليست حتماً وليدة اليوم.

بعد 34 سنة على انتهاء الحرب الأهلية لم تترسخ في الوجدان اللبناني ثقافة السلام وكأن اللبنانيين لم يتعلموا من أخطاء الماضي وانقساماته وحروبه. حرب غزة ظهّرت انقسامات المجتمع اللبناني بشكل صارخ ووضعته على حافة الهاوية. سجالات يومية وخطاب كراهية، تخوين وتخوين مضاد. أجواء تطرح سؤالاً جوهرياً: الى أين يسير لبنان وهل يمكنه استعادة اللحمة بين أبنائه؟

 

المواطنة المفقودة

 

«الثقة مفقودة بين اللبنانيين وهم غير قادرين على الالتقاء حول أي شيء لأنهم لم يخرجوا من حالة الحرب التي عاشوها منذ العام 1975» هذا ما تقوله د. علا صقر الحائزة على دكتوراه في العلاقات الإسلامية المسيحية والناشطة في مجال التنشئة على السلام. وتؤكد أن فترات السلام التي مرّ بها لبنان لم تكن سوى فترات مصالح وتصريف أعمال وأموال لكن ما إن يطرأ أي حدث يصبح كل واحد مستعداً للوقوف في وجه الآخر. الزعماء السياسيون يدركون هذا الأمر جيداً لا بل يستغلونه ويعملون على إشعال شرارة العقل الطائفي «الزواحفي» كما تسميه الذي يلتهب بسرعة ويهب للدفاع عن نفسه وطائفته وذلك للحفاظ على زعاماتهم.

 

بالنسبة إلى د. صقر تقهقر ثقافة السلام يعود الى أسباب متعددة أولها ان اللبناني لا يتربى على المواطنة ولا ينال في بيته ومدرسته ومحيطه ومجتمعه ثقافة الانتماء الى الوطن وثقافة قبول الآخر، فالمواطنة تكتسب بفعل التربية وهي خيار يتبناه الفرد. لكن الأهل الذين عاشوا الحرب نقلوا دون أن يدروا مخاوفهم وصورهم النمطية الى أولادهم فنشأ هؤلاء وفي ذهنهم صور مسبقة عن الآخر. «ربّينا أولادنا على منطقتين ولبنانين وعلى فكرة الحفاظ على الطائفة دون أن ننتبه. ورغم أننا حاولنا العمل مع الجيل الجديد وفي المدارس للتنشئة على السلام والمواطنة إلا أننا لم نستطع أن نجعل جيل الحرب يخرج من مخاوفه وصوره النمطية وأن يثق بالآخر»

 

لكن هل التربية على المواطنة وحدها تكفي في ظل عدم وجود دولة حاضنة لكل مواطنيها؟ «حين نكون كلنا مواطنين محميين بقانون واحد يعطينا حقوقنا ويفرض علينا واجبات مشتركة لا يعود هناك ما نتقاتل ونتخاصم حوله» تقول صقر. احتضان الدولة لمواطنيها عبر القانون يولد عندهم الإحساس بالانتماء الى الوطن. لكن للأسف ما يجري في لبنان هو الدوران في حلقة مفرغة. فالمواطن الذي لا يجد حضناً في دولته وقانونه يلجأ الى طائفته ويحاول أن يجد الأمان ضمن مجموعته ومن ثم تعمل المجموعة على إذكاء خوفه ويعمل الزعيم على مساعدة ناسه بالأمور السخيفة التي هي في الأصل حقوق لهم فيتبعونه مثل الغنم ويصبح الدين والزعيم درعهم الواقي وليس القانون والقضاء، فيبتعدون أكثر وأكثر عن مفهوم المواطنية وعن التوجه نحو الآخر».

 

34 سنة ونحن ندور في الحلقة المفرغة ذاتها ولم نتعالج مما حصل لنا. «لا أحد يمكنه أن يلومنا على ردات فعلنا وخوفنا من الآخر» تقول د. صقر «ولا قرار اتُخذ على صعيد البلد لدعم سياسة السلام والمصالحة ومعالجة ما حصل في الحرب وتداعياتها. لقد رُمّم الحجر ودور العبادة مثلاً في الجبل لكن لم يحصل جهد جدي للمصالحة. الجمعيات تعمل وتحاول لكن عددها يبقى قليلاً فيما القيمون على شؤون البلد لا يناسبهم أن يلتقي اللبنانيون وأن يصبح اللبناني مواطناً فهم يريدون له أن يبقى منقسماً ومتقوقعاً والدليل أنهم نهبوا البلد ثم ضربوا الحراك وقسموه حتى لا يساءلوا وحتى يبقوا سيطرتهم قائمة».

 

نحاول الابتعاد عن العموميات لنعود الى سبب انقسام اللبنانيين اليوم حول حرب غزة فتجيب د. صقر إن الانقسام يعود الى أسباب سياسية بلا شك لكن ايضاً لأسباب لها علاقة بالذاكرة. فاللبنانيون او بعضهم على الأقل لم ينسوا كم كلفت القضية الفلسطينية لبنان. واليوم تعود هذه الذكريات الى السطح ولا يمكن لوم الناس على ردود أفعالهم هم المرضى الذين لم يتعالجوا مما مروا به. إنسانياً لا يمكن للبناني إلا أن يتضامن مع غزة فما يحدث هناك لا يجب ان يحدث في أي مكان في العالم. ويمكن للبنانيين أن يساعدوا إنسانياً بأية طريقة لكن لا يمكن دفعهم الى نسيان ما مروا به. لا يزالون يشعرون بالخوف، وكلما زاد الانعزال زادت الغربة والتباعد وعدم إيجاد أوجه شبه مع الآخر.

 

الخلاف على الوسائل لا الأهداف

 

فادي أبي علام مؤسس حركة السلام الدائم الذي عمل على أبحاث وقوانين وحملات مناصرة كثيرة من أجل السلام والعدالة الانتقالية وتحقيق الأمن الإنساني بعيداً عن الخوف والألم يشرح ما يعيشه لبنان اليوم من تناقضات عبر شرح معنى الحرب وأسبابها. ويقول إن من يقوم بالحرب سواء كانت دفاعية، وقائية، استباقية جهادية أو عادلة يقوم بها من اجل السلام بحسب قناعته فلا أحد يعمل حرباً لمجرد القتل او التخريب. وبالمنطق لا يمكن أن يقوم سلام على قاعدة إهدار الحقوق سواء حقوق الإنسان أو حقوق الشعوب بتقرير مصيرها أو حقوق الدول بسيادتها واستقلالها وعند التخلي عن الحقوق يصبح السلام تخاذلاً. لكن الجدلية هي حول الوسائل المستخدمة لإحقاق الحقوق. فهناك أولاً الوسائل السلمية من حوار ومفاوضات ووساطة وتحكيم ومقاضاة، وثانياً وسائل النضال اللاعنفي مثل الإضرابات والاعتصامات والضغوط وأخيراً اللجوء الى الحرب والعنف كوسيلة لحل النزاع. ثمة من يرى أن الوسائل السلمية لا تنتهي ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تبريرالعنف او تفسيره كما يرى أن القتل ممنوع مهما كانت أسبابه. فيما يرى البعض الآخر أن العنف خيار مقبول يمكن اللجوء إليه متى استنفدت الوسائل الأخرى ولا سيما في الحياة السياسية. وفي الحالة الأخيرة يحكى عن ثقافة العنف كخيار وكعنوان للقوة في مقابل سياسة التسامح التي تصبح في الحرب عنواناً للهزيمة والجبن. إذاً قد لا يكون الخلاف على الأهداف بقدر ما هو على أساليب المواجهة.

 

في لبنان، يضيف ابي علّام، «نحن مجتمع ميال للسلم لكننا للأسف لم نتعاف بعد من آثار حوالى 27 حرباً داخلية عشناها في رحم الحرب الأهلية. وهذا الانتقال من الحرب الى السلم او ما يسمى العدالة الانتقالية لم يحدث وثمة أدلة كثيرة على ذلك منها خيمة المفقودين، وزارة المهجرين، استمرار نظام المحاصصة والإفلات من العقاب. لم نتمكن من تنقية الذاكرة لذا فإن أي حدث يعيد نكء الجراح وهذا ما رأيناه في الطيونة مؤخراً. اللبنانيون مهيأون للانقسام عند أدنى ضربة كف، فكيف بحدث كبير مثل حرب غزة ولبنان في قلب الصراع؟ دخلوا حرب غزة وهم أصلاً منقسمين، على أنقاض ثورة هامدة ومن دون رئيس ولا حكومة وبلا تشريع ومع سلطة قضائية عاجزة لم تستطع البت بشأن انفجار المرفأ ومع سرقة لأموال المودعين إضافة الى الخلاف الأساسي حول سلاح المقاومة».

 

التهديدات بلغت ذروتها وبات البلد معرضاً بشدة للمخاطر وكأنه عاد الى مرحلة 1975 بعد أن صار جسماً بلا مناعة يواجه التحديات التي تزداد في المنطقة بلا مؤسسات تعمل بشكل سوي وتضمن الحفاظ على حقوق اللبنانيين وبغياب تام لآليات الحوار وبالرغبة في الحوار. «للأسف نحن اليوم نتراجع في كل جهود السلام والتلاقي وبتنا مهددين أكثر بالتشرذم والانقسامات وحتى عدم القدرة على العودة الى الوحدة خصوصاً أن سلّم القيم يتغير في الحرب وتتراجع قيمة التسامح. لا حل للبنان إلا بالحوار لكن الدولة والأحزاب كما وسائل الإعلام والتواصل كلها تعمل على إبعاد اللبنانيين عن بعضهم وزيادة حدة انقساماتهم، خصوصاً أن ظروف المنطقة لا تساعد بل تلعب ضد لبنان كما كانت في العام 1975. وفي الوقت الذي أصبحت فيه القوة مرتبطة بالسلاح واصبح «حزب الله» رمز القوة يبقى الحوار والتلاقي القوة الحقيقية التي تحمي لبنان وإلا فالبديل مخيف. والمسؤولية تقع على الجميع دولة واحزاباً ومجتمعاً أهلياً ومدنياً واعلاماً وتربية ورجال دين لإعادة بناء جسور الحوار. لأن الحوار حتى لو لم يؤد الى نتيجة يبقى أفضل من التباعد واللاحوار».

 

يعدّون للعشرة

 

لكن رغم كل هذه الانقسامات التي تعصف باللبنانيين تبقى هناك نقاط ضوء. ففي لبنان البلد الحضاري يمكن للمشاكل أن تسوّى بلحظة وفق ما يؤكد د. علي بزي الأستاذ الجامعي في مادة الانتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية ورئيس الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع تبعاً للعبر المستخلصة من تاريخ لبنان الحديث وما مرّ به.

 

«اللبنانيون قادرون بسرعة على الإنضواء تحت لواء الدولة متى وقفت على رجليها والالتزام بالقوانين والانتقال من حالة الفوضى والعنف الى حالة الاستقرار. وفي الواقع في زمن الأزمات والخضات تطفو على السطح فئة لا تتعدى نسبتها 10% وهي التي نراها تتناحر على مواقع التواصل الاجتماعي اليوم فيما هناك نسبة 80% تشكّل الأكثرية الصامتة التي لا علاقة لها بخطاب الكراهية وتبادل الاتهامات لكنها غير مؤطرة ضمن أطر واضحة ويصعب عليها الوقوف في وجه القوى المسيطرة. ما عاشه لبنان خلال الحرب الأهلية يجعل اللبنانيين اليوم ورغم كل ما نشهده من عنف وانقسامات يفرملون أنفسهم عن البدء بأي اقتتال وتبقى الأمور بينهم على المستوى اللفظي في أغلب الأحيان، فيما في السبعينات أو الثمانينات كان يمكن لأية حادثة أن تخرب البلد. اليوم الكل يعدون للعشرة قبل أن يشعلوا أية شرارة يمكن أن تعيد إشعال الحرب. أما ومضة الضوء الأخرى فإنه حتى في عز حربه لم ينفصل لبنان تماماً عن بعضه وظلت قنوات التواصل مفتوحة بين فئاته».

 

فهل يحق لنا أن نأمل ؟