IMLebanon

صرير أسنان على حافة الهاوية

 

مشهد البلد في أسوأ حالاته، إنقسام أفقي وعامودي حول كلّ شيء، و»صرير الأسنان» على أشدّه بين مكونات سياسية ومدنية تناصب العداء لبعضها البعض وتدفع البلد نحو هاوية مفتوحة على كل الاحتمالات السلبية، فكيف له وحاله هذه أن يقوم وينهض من جديد؟

 

الأزمة الخانقة أفق حلولها مقفل، وتنذر بهاوية اقتصادية واجتماعية ومعيشية. الحكومة تحاول ان تتلمس خطواتها، ويؤخذ عليها بطء وصفاتها العلاجيّة وخصوصاً انّ عامل الوقت سلاح ضاغط للتسريع. لكنها تبرّر هذا البطء بأنّ حجم التعقيدات في طريقها أكبر من أن يقارَب بأداء متسرّع، بل يتطلّب مقاربات جذريّة وقرارات جريئة، يجري طبخها على نار هادئة لكي تحقّق الغاية المرجوّة منها. وهذا ما يفرض بالتالي قليلاً من الصبر.

 

ثمة من لا يرى مبرراً لأي تأخير في الخطوات الحكومية، طالما انّ برنامجها واضح لناحية انّ علاج الأزمة ما زال ممكناً، فلبنان ليس دولة مفلسة، فهو يمتلك الكثير من الإمكانات التي تمكّنه من ان يعود وينهض من جديد، شرط مقاربة الأزمة بواقعية وموضوعية، عبر خطة إنقاذية متدرجة من الأهمّ إلى المهم يلمسها المواطن، وتستخلص العِبَر والدروس من مسلسل الإخفاقات التي ضربت بنية الاقتصاد، وتتّعظ من الأخطاء القاتلة التي ارتُكبت في السنوات الخمس الاخيرة وخلخلت أركان الدولة.

 

ولكن، ليست العلّة فقط في تأخّر خطوات الحكومة، بل في المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها بعض القوى السياسية لإعاقة الحكومة ودفعها الى الفشل، عبر فتح سلسلة معارك سياسية في موازاة المهمّة الصعبة للحكومة.

 

اولاً، في صدارة هذه المعارك، تتبدّى معركة التعيينات التي، وإن جرى بالأمس إصدار جرعة خفيفة منها، فإنّ الجرعات الأساسية المؤجّلة، بدأت تُشتم منها رائحة محاصصات، تنسف كل الهدف الإنقاذي الذي تسعى اليه الحكومة، وخصوصاً انّ ثمة اطرافاً فاعلة في السلطة تسعى الى جعل بعض التعيينات جسراً لبعض الموظفين المحسوبين عليها، للتربّع على رأس بعض الإدارات والقطاعات الحيوية.

 

ثانياً، تليها المعركة الصامتة حالياً، حول اللجوء الى صندوق النقد الدولي، والتي قد لا يطول الوقت لتظهر الى العلن بصورة حادة، فثمة انقسام عميق حوله، فالحكومة ترى انّ لا خلاص الّا ببرنامج تعاون مع صندوق النقد، ومؤيدو هذا الخيار يعتبرون انّ اللجوء الى الصندوق شرّ لا بدّ منه، لا بل هو أهون الشرور. وآخرون يبدون اكثر تفاؤلاً، بحيث انّهم يعتبرون انّ مجرد اللجوء الى صندوق النقد معناه انّ لبنان قرّر ان يعود الى الحياة، ومجرّد دخول لبنان في اتفاق مع صندوق النقد، معناه انّ صورة لبنان الراهنة ستتغيّر ويبدأ طريقه نحو استعادة عافيته وثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي به.

 

يقابل ذلك، تحذيرات من القلقين من اللجوء الى صندوق النقد، فحواها انّه لا ينبغي النظر الى صندوق النقد بوصفه مؤسسة طوباوية، وانّ وصفاته فيها العلاج الشافي للأزمة. فثمة دول كثيرة عانت من تداعيات وصفاته اجتماعياً واقتصادياً ومالياً، وخصوصاً انّها وصفات تستنزف ثروات أي بلد، وتجعل من ناتجه المحلي مخصّصاً فقط وحصراً لخدمة الدين وإيصاله الى مرحلة تعثر تسهّل فرض الشروط عليه. فبرنامج صندوق النقد غالباً ما يترك البلد المستهدف ببرنامج معه، فقيراً كما كان من قبل، ولكن مع مديونية اكبر. ومن هنا ينبغي قبل اللجوء الى الصندوق التفكير والتبصّر في التداعيات.

 

ثالثاً، وتتبدّى المعركة الثالثة حول القانون الانتخابي، الذي يتعرّض فيها المواطن اللبناني المقيم والمغترب لأكبر خديعة تمارسها بعض القوى السياسيّة، بمحاولتها إيهام اللبنانيين في لبنان ودنيا الانتشار، بأنّ الانتخابات النيابية المقرّرة في ربيع العام المقبل، ستكون يوم الحساب مع السلطة التي تسببت بالأزمة، وسينتج منها ربيع تغييري، يحاكي تطلعات اللبنانيّين الى تغيير انقلابي يطيح كل رموز المرحلة السابقة.

 

على انّ الحقيقة الموجعة التي تبدّت مع النقاش الذي خاضته تلك القوى في مجلس النواب وخارجه، وخصوصاً حول تصويت المغتربين وما يتعلق باستحداث المقاعد الإغترابية الـ6 على مستوى القارات، أظهرت انّ أولوية هؤلاء ليس الحرص على حق المغتربين بالاقتراع واعتباره حقاً مقدّساً وما الى ذلك من شعارات كبيرة، بل على تصفية الحساب بين بعضها البعض، واتخاذ القانون الحالي، الذي يستحيل معه اي تغيير في الخريطة النيابية الحالية، سلاحاً للانتقام من بعضها البعض وتحجيم بعضها البعض، والسباق على من يحوز على الكتلة النيابية المسيحية الأكبر، على باب الاستحقاق الرئاسي مع نهاية عهد الرئيس ميشال عون.

 

وكل الوقائع المرتبطة بهذا الملف، تؤشر إلى انّ هذه القوى عاكفة من الآن على خوض المعركة الكبرى حول القانون الانتخابي، في مواجهة عناوين كبرى نادت بها ثورة 17 تشرين الاول، ولا سيما منها تخفيض سن الاقتراع من 21 سنة الى 18 سنة، وكذلك حول الكوتا النسائية ومنح المرأة المساحة التمثيلية اللائقة بها في البرلمان. وكذلك، وهنا الأساس حول وجهة تصويت المغتربين، هل للنوّاب الـ128 أو للنوّاب الستّة المخصّصة للإغتراب. ويبدو التباين حاداً حيال وجهة الانتخاب بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية». علماً انّ مخاوف يبديها بعض الأطراف، من ان تتحوّل الجلسة التشريعيّة التي ستقارب الملف الانتخابي مع بدء العقد العادي الثاني لمجلس النواب، الى حلبة مفتوحة على صراع محموم بين اقتراحات تطال جوهر القانون.

 

رابعاً، ولعلّ اخطر المعارك، تلك التي بدأت نذرها تطلّ مع الاشتباك المتصاعد حول التحقيق في ملف تفجير مرفأ بيروت، الذي بدأ يخضع لتجاذب خطير جداً ينذر بانحداره الى عواقب سياسية وطائفية مفتوحة على احتمالات وسيناريوهات سوداوية.

 

الواضح أنّ هذه المسألة تجاوزت البُعد القضائي، وباتت مادة سياسية خلافيّة في منتهى الحدّة والعمق، وخصوصاً في ظلّ الانقسام السياسي والطائفي الحاد حيالها، بين قائل بتحقيق نزيه يجريه المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، وبين قائل بتحقيق استنسابي مسيّس لا يتوخّى كشف حقيقة من فجّر المرفأ، بل يتوخّى الاستهداف السياسي لطرف معيّن. وتندرج في هذا السياق مذكرة التوقيف التي أصدرها القاضي البيطار قبل فترة بحق الوزير السابق يوسف فنيانوس، ومسارعته بالأمس الى إصدار مذكرة توقيف غيابية بحق النائب علي حسن خليل، قبل دقائق قليلة من تبلّغه طلب الردّ الثاني المقدّم من النائبين خليل وغازي زعيتر.

 

تؤكّد الوقائع المتسارعة حيال هذا الملف، انّه بلغ مرحلة حرجة، وبات ينذر بتفاعلات على غير صعيد، ليس فقط حول مصير التحقيق في هذا الملف، بل على الصعيد السياسي ووضع الحكومة وإحباط مسار العلاجات الحكوميّة، وأخذ البلد برمّته نحو مسار آخر ليس في مقدور احد أن يحدّد وجهته السلبيّة ويقدّر حجم تداعياته السياسية وغير السياسية.