IMLebanon

أية حكومة لإدارة الانهيار الاقتصادي؟

 

مع استقالة حكومة الرئيس الحريري، تتبخّر فرص الحصول على قروض «سيدر» في القريب العاجل، وتستمر المصارف في الإقفال، بينما يتهافت الناس على الصرافات الآلية التي تمنعهم من سحب كل دولاراتهم وتبدّلهم إيّاها بليرات لا يمكن تصريفها في سوق القطع.

 

وترفض شركات تحويل الأموال، التي يستخدمها اللبنانيون لدفع فواتيرهم، قبول ليرات المواطنين إلّا بعد تخفيض سعر صرفها بحوالى 25% عن السعر الرسمي، علماً أنّ هذا التخفيض يُرَشَّح ازدياده مع استمرار إقفال المصارف وشح الدولار من السوق.

 

وتعلن الشركات المستوردة للنفط تدنيّ مخزونها المتوافر وعجزها عن الاستيراد في ظل إقفال المصارف وعدم فتح اعتمادات، ما يفتح باب التكهنات حول خطر انقطاع المواد المستوردة الأخرى مثل الأدوية والخبز. فهل كانت الأيام التي تحدث عنها الحاكم رياض سلامة مجرد ساعات؟ وهل بدأ الانهيار الكبير؟

 

يتركّز عمل المصارف على جمع الودائع وتحويلها إلى قروض تموّل الأعمال الإنتاجية مثل إنشاء الشركات وتوسيعها وحاجات السكان المختلفة. أمّا في لبنان، فالحال مختلف، إذ كان القطاع المصرفي مسؤولاً عن تمويل 55% من سندات الخزينة عام 2012، بمعنى أنّ أموال المودعين تُسلّف إلى الدولة لتمويل مصاريفها.

 

وفي السنوات الماضية، تخوفّت المصارف من ازدياد خطر تخلّف الدولة عن دفع ديونها، فعمدت إلى تخفيض حصتها من الدين العام إلى 33% ورفعت بالتوازي اكتتابها لأوراق مصرف لبنان، معتبرةً إيّاه أكثر أماناً من الدولة.

 

 

ولكن مصرف لبنان عاد واستعمل هذه الأموال للاكتتاب بسندات الخزينة، فرفع حصته في الدين العام من 30% إلى 53%، أي إنّ الودائع التي أخرجتها المصارف من خطر الدين العام عادت إليه من شباك المصرف المركزي.

 

وفي ظل تهافت المودعين على سحب ودائعهم وانكشاف المصارف على الدين العام وعجز الدولة عن التسديد واستمرارها في الاقتراض لتمويل عجزها، يتقلّص هامش الحل بشكل كبير، وينحصر الاختيار ما بين خيارين اثنين أحلاهما مرّ. فإمّا أن يؤمّن مصرف لبنان حاجة المصارف من ودائع الليرة بزيادة حجم الكتلة النقدية، وهو ما سينجم عنه تضخّم كبير وارتفاع في الأسعار وإفقار للمواطنين وانهيار سعر صرف الليرة أكثر مما وصلت إليه اليوم، وإمّا أن يُمنَع المواطنون من سحب ودائعهم، وهو ما سيفاقم الأزمة ويدفع المغتربين إلى الإحجام عن إرسال تحويلاتهم إلى لبنان ويقضي على الأمل في جذب رؤوس الأموال والمودعين، ما يسبّب في نهاية المطاف تطويلاً لعمر الأزمة الخانقة.

 

من هنا، فإنّ الحكومة المقبلة هي في الحقيقة حكومة إدارة الانهيار الاقتصادي المتوقع، الذي لم يعد بالإمكان تفاديه بعد الآن؛ ويتوجب عليها، إضافة إلى تحمّل التبعات الاجتماعية والأمنية للانهيار، إجراء إصلاحات اقتصادية غير شعبية، مثل تطهير إدارات الدولة من الفائض الوظيفي، أي صرف حوالى نصف موظفي الدولة، ورفع الدعم عن الكهرباء والطحين وتحرير أسعار المحروقات والأدوية والخبز، أي رفع ثمنها، وفتح الاحتكارات العامة للمنافسة، خصوصاً في قطاعات الاتصالات والطيران والكهرباء والمياه والكازينو، إضافةً إلى خصخصة المؤسسات العامة.

 

وتسمح هذه الإصلاحات المؤلمة بعودة التوازن المالي سريعاً ووضع الأسس السليمة للنمو الاقتصادي المنشود، ولكنها ستترافق مع سخط شعبي كبير وانفجار اجتماعي. وقد يسمح «سيدر» بتخفيف بعض الاحتقان، إذا ما نجحت الحكومة في استعادة الثقة الدولية المفقودة بالكامل اليوم، عن طريق إظهار جدّيتها في القيام بالإصلاحات الصعبة.

 

واليوم، يغيّر الانهيار الاقتصادي قواعد اللعبة السياسية في لبنان، فهو يجعل البقاء في الحكومة وزراً كبيراً. فالشعب سيلقي اللوم على الحكومة القائمة، متهماً إيّاها بتقاسم المغانم المتبقية في هذا البلد المترهل على حساب تجويعه. وفي ظل حجم الكارثة، لن تستطيع المبررات والحجج نقل اللوم إلى أخطاء الماضي أو تصرفات المعارضة أو المؤامرات الخارجية. ومن هنا يبرز حل حكومة من غير الحزبيين كمخرج حقيقي للسلطة ويؤمّن لها كبش المحرقة في الوقت المناسب.