IMLebanon

جمهورية الموز

 

يتعذّر على المواطن في لبنان أن يتبيّن مساراً واضحاً للسياسة الحكومية أو لنقُل للسياسة الرئاسية التي أصبحت قاطرة السلطة التنفيذية خلافاً للدستور. تشكو السياسة اللبنانية من غياب المرجعية، مركز الثقل في لبنان لم يعد لدى من هم في سدّة القرار ولا هو لدى شخصيات أو مرجعيات وازنة تعوّض غياب لبنان الرسمي، فلبنان أضحى عبارة عن مجموعة من نقاط الضعف، واجتماع نقاط الضعف لا يؤدي إلا إلى تشكيل منظومة ضعيفة.

 

شكّلت معادلة «لا شرق ولا غرب» التي استند إليها لبنان حاضنة لقوته عندما كان لبنان جزءاً من غرب يتمسّك به وجزءاً من شرق يريد إستعادته. وقد لعبت المرجعيات اللبنانية دوراً متقدّماً على الدولة للاحتفاظ بالمرجعيتين، وليس بمن يمثّلهما من أنظمة وأشخاص، وجنى لبنان ثمار هذا الإحتفاظ بالموقع المتوازن. لبنان من وجهة نظر الغرب كان مساحة لحرية التعبير والمعتقد وقيم التسامح والتعايش بما لا يتوفر أحياناً كثيرة في الغرب نفسه، إلى جانب التبادل الإقتصادي والثقافي، وهذا ما أدى إلى تراكم معرفي كبير أغنى الاقتصاد وسمح له بالتمدد بسهولة وبناء ثروات ومواقع قوة في العالم العربي وإفريقيا وأوروبا. ولبنان من وجهة نظر الشرق كان النموذج القريب بالجغرافيا والناطق باللغة الأم والقابل للاستنساخ في ميادين عديدة. اللبنانيون الذين لم يفهموا تلك المعادلة أواعتبروا أنّه بإمكانهم تجاوز قواعد اللعبة والانحراف عن الموقع الوسط أسقطتهم لعبة الأمم ودفع لبنان الثمن، وهذا ما حصل في 1958 و1975, و1982, و1990.

 

لبنان الذي سقط في منطقة نفوذ طهران – دمشق، وتموّضع في محور مواجهة الغرب، وربما العالم، الى جانب مشروع يستمدّ دكتاتوريته من نظام شمولي في دمشق يتنازعه حرس قديم وحرس جديد يتوزعان السلطة والإقتصاد، ويستمد مذهبيته من نظام أنتجه تقاطع المصالح الغربية وتجتمع فيه كلّ الخلفيات العرقية والمذهبية التواقة لاستعادة مبررات الانتقام من كل التاريخ، يجتاز الاختبار الأقسى الذي أفقده موقعه ووزنه بحيث لم تعد مرجعياته، التي خرجت من معادلة «لا شرق ولا غرب»، قادرة على إعادة توازنه. فقد لبنان موقعه لدى الغرب لأنه فقد القيّم التي اطمأن إليها الغرب وسقط بمنظار الشرق كنموذج يُحتذى لأنه  لم يعد جزءاً من حداثة متفاعلة ومتطورة.

 

الخطة الاقتصادية للحكومة التي لم تتخلّ في جزئها الأول عن تحميل القطاع المصرفي كلّ أسباب الفشل، والتي استثنت المنظومة السياسية من الفساد وتغاضت عن إرتكابات القطاع العام، تستعرض في جزئها الثاني مجموعة من الإصلاحات البنيويّة بطريقة سردية، وتكرر عبارات ووعود مجتزأة تفتقر للآليات والجدول الزمني، تعرّضت لما يكفي من إنتقادات واسعة ومرشحة للتفاعل من القطاع المصرفي والهيئات الإقتصادية والكتل السياسية.

 

هذه الخطة بصرف النظر عن مضمونها الاقتصادي هي تعبير عن فشل الاحتفاظ بمعادلة «لا شرق ولا غرب» كخيار سياسي. فالسيطرة على الرساميل ومصادرة أموال اللبنانيين بشكل مباشر أو غير مباشر، وإبتكار صناديق تسيطر عليها الدولة، وغياب أيّة إشارة لتحفيز الإقتصاد وتشجيع المستثمرين، واستباحة القطاع الخاص، هي قبل كلّ شيء اعتداء على القيّم التي وضعت لبنان على تقاطع مصالح الغرب والشرق، وهي إسقاط لمبادئ دستورية وقيمية راسخة كالحقوق الشخصية والملكية الخاصة واعتداء على المنظومة القانونية الموجودة. إلتزام الحكومة بطلب الدعم من صندوق النقد الدولي عاد ليدخل مدار الشك بعد كلمة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله بالأمس كدليل على الضياع السياسي.

 

إنّ إعادة النظر بالخيارات المتاحة للحفاظ على لبنان تستدعي إعادة تقييم لميزان القوى الإقليمي الذي استند إليه خيار الإلتحاق بمحور دمشق طهران. إنّ المبالغة بالرهان على مستقبل الرئيس بشار الأسد في ضوء ما يصدر عن قيادات روسية حول عدم قدرته على السيطرة على البلاد، وموجة الاعتقالات الواسعة التي تطال دوائر لصيقة بالنظام والعائلة، واقتراب موعد تطبيق قانون قيصر في شهر حزيران القادم، الذي سيفرض إقفال الحدود اللبنانية – السورية بوجه كلّ أشكال التبادل التجاري، بالإضافة الى المواقف الدولية المتشدّدة من إيران بعد إطلاق القمر الصناعي العسكري، والمناورات في الخليج، وحظر حزب الله في المانيا بعد بريطانيا واعتباره منظمة ارهابية، ووقف نشاطاته وتوقيف عدد من مناصريه لا يمكن أن يُسقط من الاعتبار في خيارات عاقلة تتعلّق بمستقبل لبنان.

 

إنّ الخطة الاقتصادية هي أكثر من مجموعة أرقام وتدابير، لو سلّمنا بوجودها، لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، هي قبل أي شيء خيار سياسي رؤيوي لدور وموقع لبنان. إنّ الاستمرار في معادلة «العداء للشرق والغرب» سيأخذنا الى المزيد من الانهيار الاقتصادي وسيضيف لبنان إلى قائمة جمهوريات الموز.