IMLebanon

الأول من أيّار..وفي الحركة بركة وعمّال

هؤلاء عيدهم..

بناة الحضارة أصحاب الأيدي المتورمة، العيون الساهرة على حدود الوطن، العاملون في قيظ النهار وفي ظلمة الليالي، المربون، الأطباء، المهندسون، التجار والصناعيون، الكتبة والمحاربون بالأقلام وبالمواقف وبالكلمة وبالارادة وبعرق الجبين..وجميعهم في بلد يكابد للوقوف على قدميه، يكسبون يوما بيوم. إن هم عملوا، تيسرت لعائلاتهم، وإن هم عملوا بدوامين، عيّدوا، لكن العيد يبقى بدوام جزئي طالما أنهم رفاق الشمس، وسمّار الأعمال البديلة، والكل ينفع في زمان تشبه فيه البطالة بعبعاً يخيف الأطفال ويجوعهم.

هؤلاء عيديتهم ربطة خبز ولوازم أوّلية، اللبنانيون الذين لا يأبهون لساعات العمل مهما تضخمت ولا ينامون بحثاً عن مزيد من الموارد في بلد تتأكّله الأعباء، فيعاندونها بالمزيد من الصبر والجهد، وللأول من أيار يخبئون في التجربة اللبنانية، تاريخاً من النضال الذي ينتظر عودة توهّج مشعل الحركة النقابية، وقد كانت الأخيرة متداخلة قبل نحو قرن مع ولادة لبنان الحديث، ومساهمة بشكل فاعل في الانتقال من الانتداب الى قيام الدولة وتحصينها، لتحمل آنذاك الهم المدني والمجتمعي بعيدا عن التطييف والانقسامات، فكان أن سجّلت في العام 1919 أول إضراب لجمعية السكك الحديد من أجل زيادة الأجور، وقد قوبل التحرك بالقمع من قبل الانتداب الفرنسي، فتفجرت الاعتصامات والحركات النقابية وتكاتفت بغية انتقال لبنان الى الاستقلال، وكرت سبحة النشاطات النقابية والمطالب والحقوق متأثرة بمناخي اليسار واليمين، إلا أن دخول الطوائف والأحزاب لاحقاً على خط المطالب العمالية ومحاولات مواجهة السلطة أو مؤاخاتها أحدث شرخاً لا زال يجرّ انقساماته على أمل أن يستعيد المشهد النقابي زخمه الذي أغرى الدول العربية من حوله، فكان المحرّض والمعلّم، فهل يؤسس العهد الجديد الخارج بدوره من وصايات الجوار إلى بصمات بناءة في عودة العلاقات بين النقابات والسلطة في الطريق الى تحصيل الحقوق والخروج من نمطية اعتبار الاول من أيار مناسبة لاعتصامات ولافتات تكتفي بمناهضة الدولة ومحاسبتها من دون تقديم أي بديل أو حلول للمعضلات المتراكمة في بلد اختبر مطرقة الفراغ وسندان الشغور؟.

وإذا كان الأول من أيار لا يحمل الكثير من معاني العيد، ليس في لبنان فحسب، وإنما في العالم الذي يتخبط بالثورات والحروب والانقلابات والجنوح الى اليمين والهجرة واللجوء..وكلها مؤشرات تأخذ الى المزيد من الفقر وسفك الدماء والفوضى والجوع وحالات لا تبشر بعيد يستيقظ فيه العامل على يوم راحة ليس فيه «أوفر تايم» أو خوف من الإفلاس أو الصرف، فإنه قديماً اختار قبل 131 سنة خلت، أن يعبّد تارخ حقوقه بالدماء، منذ انطلقت التظاهرة العمالية في الأول من أيار من العام 1886 في مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة للمطالبة بثماني ساعات عمل في اليوم، لا أكثر. وكان أن قمعت المسيرة، جرح من جرح، وقتل من قتل، وبقيت الحادثة تخبر عنها لوحة تفيد:«سيأتي يوم يصبح فيه سكوتنا أقوى من الأصوات التي تخنقونها»، ويوماً يتجدد في السنة ليعيد التذكير بأن الاحتفاء بعيد العمال ليس مناسبة للفرح وإنما للأخذ بيد الكادحين الى حياة أفضل ودرجات مهنية يرتقي معها الأفراد الى بلدان تكون نامية بدلا من أن تكون مصدرة للموت والكساد والخمول.

وحيث لبنان الآخذ في الارتقاء درجة تلو الدرجة، ليس العامل في أحسن حال، هو الذي ينتظر التفاهمات السياسية من أجل أن يبني عليها مرقد عمل وبيت وموردا مقبولا، إلا أنه مقارنة مع بلدان عربية ومجاورة، حتماً ليس الأسوأ على الرغم من المنافسة التي يتعرض لها من خلال دخول نحو 50 في المئة من اللاجئين السوريين على خط المنافسة في سوق العمل، ومع ذلك البلد ماشي، وإن بال«دفش»، في الأعمال الحرة وفي التعاقد الوظيفي وفي خدمات الوساطة المالية والتأمين والتجارة والصناعة والبناء والنقل والاتصالات الى حدود أنه كلما أقفلت ورشة شرّعت الأبواب لأخرى حيث المؤسسات الدولية العاملة في الداخل تروقها ديناميكية اللبناني وذكاؤه في استثمار الخسائر الى أرباح ومشروعات جذابة، وإلا فإنه في الظروف التي اختبرها في السنوات الاخيرة من حيث استقباله أضعاف أعداد مواطنيه، لكان أعلن استسلامه من أول الطريق.

وفي بادرة الصمود تلك، بصيص ضوء للعامل اللبناني الغارق في الأزمات الاقتصادية والمعيشية والمطلبية والاجتماعية، والموعود بتجاوزها في حال اعتدلت الكفة السياسة لتوازي مساعي الانماء والبحث عن حلول بغية التغلب على الشلل الضارب في المؤسسات وفي الجسد النقابي وفي مناصب مهمة خلت في الدولة منذ دخل الشغور على خط البطالة وعلى خط تجميد عمل النقابات العمالية لصالح حسابات فئوية وطائفية.

ولأنه الأول من أيار، تاريخ دخول لبنان في أسبوع الشهداء الذين أعدموا في الساحات كرمى لحرمة الوطن وسيادته واستقلاله، يحتاج واقع الحركة العمالية العودة الى صفاء البدايات ودورها التوحيدي، ولاسيما أنها مع بداية تأسيس لبنان والتخلص من الانتداب الفرنسي في العام 1943، ورثت مختلف أشكال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع ذلك تكاتفت وواجهت محاولات التفتيت، لتتوحد في السبعينيات مشكلة نقطة التقاء تجلّت في التظاهرة العمالية التي قام بها الاتحاد العمالي العام بعد انتهاء الحرب في العام 1987 ضد الحرب ونظامه وآلياته ورموزه، فالتقى لبنانيون من شطري العاصمة على خط التماس بين المتحف والبربير، وبسواعدهم أزالوا معاً خطوط التماس، فكانت أول انتفاضة مدنية. وإذا كان يحتاج لبنان الى تلك السواعد، فإن إضاءة المشعل العمالي تتوهج بكف توظيف الحسابات السياسية في المطالب العمالية البحتة والمحقة، الأمر الذي يعزز دورها الوطني والمطلبي، فتتأهّل مجدداً لتتبوأ واحدة من عناصر توحيد المجتمع وتقرير سياساته الوطنية المتعلقة بالنواحي الاجتماعية والتعليمية والصحية، مدعومة من النظام البرلماني الديموقراطي باعتباره الأفضل من أجل تحسين أوضاع العمال والمستخدمين.

فهل تبادر الحركات النقابية الى تصويب البوصلة باتجاه الفعل أكثر من براعة الخطابات..الأعياد آتية والعمال في انتظار؟.