IMLebanon

“السلطة” قبل أن تستسلم… المعارضة قبل أن تحكم

 

كأن الأمر لم يعد يحتاج إلا إلى إصدار مراسيم التسليم والتسلّم. حركة الشارع تؤكد أنها باتت في الحكم. وحركة “السلطة” تؤكد أنها باتت خارج الحكم. منطق “السلطة” يعبر عن حالة من الإستسلام وعن البحث عن طريقة لإعلان الهزيمة أو لتوسل البقاء في الحكم. ومنطق الشارع يعبر عن الشعور بالإنتصار من دون أن تكون هناك خريطة طريق لاستلام الحكم. من خطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى ورقة الرئيس سعد الحريري الإصلاحية هناك تسليم بأن الشارع انتصر وبأن “السلطة” أصبحت من الماضي. ثمة عهد ينتهي وثمة عهد يولد.

 

منذ اندلاع الثورة في 17 تشرين الأول الحالي بدا وكأن “السلطة” توارت عن الأنظار. أصبح أركانها يتصرفون وكأنهم من المطلوبين. بالكاد تسمع أخبار الوزراء والوزارات والرئاسات. كان هناك رهان على الوقت وعلى إنهاك الحراك في الشارع وعلى أن يتولى الجيش اللبناني فتح الطرقات وقمع المتظاهرين. وكانت الخطة تبدو أقرب إلى عملية غش وضحك على شارع أصبح عصياً على الغش والإستغباء. ما قاله رئيس الوزراء سعد الحريري عندما أعلن من قصر بعبدا ورقة حكومته الإصلاحية كان يعترف بالهزيمة أمام الشارع. وعندما خرج رئيس الجمهورية إلى الناس بكلمته المسجلة المقطعة الأوصال والأفكار كان يقر أيضاً بالهزيمة. بدا الرئيس في هذه الكلمة في 24 تشرين 2019 كأنه يكرر ما قاله عند الساعة التاسعة من صباح 13 تشرين 1990 عندما أعلن الإستسلام من السفارة الفرنسية في الحازمية. كل ما ورد في كلمته كان انهزامياً في الشكل وفي المضمون. فجأة ظهر وكأن عدة شغل الرئيس التي تحدث عنها نواب في “التيار الوطني الحر” قد انتهى مفعولها، وبدا أيضاً كأن الرئيس بات من دون حضور ومن دون خطة ومن دون وسائل للحكم ومن دون إرادة للحكم. بدا كأنه مستسلم لقدر لم ينتظره.

 

كأن قلب الطاولة الذي تحدث عنه رئيس “التيار الوطني الحر” وزير الخارجية جبران باسيل يوم 13 تشرين من الحدث انقلب عليه وعلى العهد. وكأن التيار الجارف الذي هدد به جَرَفَه قبل أن يصحو من نشوة التصرف بأنه الوزير القوي العائد من لقاء السبع ساعات مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله. جبران باسيل بعد لقاء رئيس الجمهورية في بعبدا وحديثه عن ورقة إصلاحاته بعد انفجار الشارع كان أيضاً كمن يعلن انكساره ويحاول أن يجد أسباباً للهزيمة. حتى “التيار الوطني الحر” بدا وكأنه أصبح خارج المعادلة. الشارع يتهمه ويشتمه. لا حجة لديه. لا حضور لنوابه ووزرائه. لا فعالية لمواقفه. لا يستطيع أن يفهم ماذا يحصل ولماذا يتظاهر الناس ضده ويتهمونه بالفساد. لقد دمج باسيل صورته مع صورة العهد وصورة “التيار” فكانت النكسة شاملة.

 

في مصر انتظر الرئيس السابق حسني مبارك أياماً قبل أن يتنحى. وفي ليبيا انتظر العقيد معمر القذافي أياماً قبل أن ينتهي قتيلاً على الطريق في قناة ماء. وفي تونس اختار الرئيس زين العابدين بن علي الفرار بعدما أيقن أن الشارع بات أقوى من سلطته. وفي الجزائر ارتضى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة التواري عن الأنظار وعن الكرسي مسلماً أركان عهده إلى غضب الشارع. وفي السودان انتقل الرئيس محمد عمر البشير من القصر الرئاسي إلى السجن. ثمة تجارب عربية قريبة وبعيدة في الزمان تبرز كمية التغيير التي تطرأ على الأنظمة والحكام بفعل التغيير الحاصل في الوعي الشعبي وفي الشارع. في لبنان تكاد التجربة تكون مماثلة ولكن مع مخارج مختلفة. هناك معارضة تنتصر ولكن فيها أكثر من وجه وأكثر من عنوان ومن مطلب. وهناك سلطة تنهزم فيها أكثر من طرف وأكثر من عنوان.

 

عندما تصدى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله لحركة الشارع ناصحاً ومرشداً بأن هذه التظاهرات لن تُسقِط حكماً ولن تغيِّر حكومة، كان كأنه لا يقارب حجم الشارع الذي تحرك وكان يعتقد أن بإمكانه أن يخيف هذا الشارع عندما يهدد بشارعه الذي يمكنه أن ينزله إلى الأرض ولا يخرج منها إلا عندما تتحقق مطالبه. ربما لو تسنى للسيد نصرالله أن ينتظر أكثر من يوم أو يومين لما كان قال ما قاله. وربما لذلك هو صامت منذ قال ذلك الكلام. فسقوط العهد لا يعني إنهاء ولاية رئيس الجمهورية بل انتهاء مفاعيل قوة القوى التي كان يستمد منها قوته، وسقوط الحكومة لا يعني استقالتها بمقدار ما يعني أنها أصبحت خارج الحكم والسيطرة وحتى لو كان رئيسها لا يزال يداوم في السراي ويعقد اجتماعات في بيت الوسط.

 

لقد راهن “الحكم” على أمرين في محاولة لإقناع الناس بالخروج من الشارع. أولاً من خلال الضغط على قيادة الجيش اللبناني لاستخدام القوة وفتح الطرقات بعد التلميحات الكثيرة إلى الدور الذي يلعبه حزب “القوات اللبنانية” في عدد من نقاط التجمع وبحجة عدم السماح بقطع الطرقات على الناس. ولكن الجيش تصرف بمسؤولية ولم يستخدم القوة وبدا منذ بيان القيادة الأول بأنه أقرب إلى نفس الشارع من خيارات السلطة، وبالتالي بدا وكأن هذه السلطة وبعدما فقدت أذرعتها السياسية فقدت أذرعتها الأمنية والعسكرية، خصوصاً بعد المعلومات التي تحدثت أيضاً عن أن وزيرة الداخلية رفضت زج قوى الأمن الداخلي في هذه المهمة “القذرة”. لقد تصرف الجيش اعتباراً من 17 تشرين الأول 2019 كما تصرف في 14 آذار 2005. وقتها أتته الأوامر بقمع المتظاهرين وقطع الطرق المؤدية إلى ساحة الشهداء في وسط بيروت ولكنه اختار أن يقف على الحياد. كان مطلوباً أن يصطدم الجيش بالشارع. ولكن موقف قيادته أظهر أنها كانت أحرص على أن يكون حل المشكلة بالسياسة وليس بالقوة. ومن خلال هذا التصرف استطاع الجيش ان يكون في كل الساحات من حلبا في عكار إلى طرابلس والنبطية وكفررمان وعاليه وبعلبك وعرسال ووسط بيروت وجسر فؤاد شهاب والزوق وجل الديب وجبيل وصور وصيدا. في المقابل بدا وكأن سطوة “حزب الله” على شارعه قد تعرضت لفجوات كثيرة وبدا أنه أصبح في وضع تحديد الخسائر عبر محاولات لإيجاد مخارج لا تعتبر هزيمة له وللعهد كطرح تعديل الحكومة.

 

في المقابل هل يمكن أن تذهب المعارضة إلى انتصار كامل؟ صحيح أن أي قيادة واحدة لهذه المعارضة لم تظهر ولكن يبدو أن هناك مطلباً واحداً قد يكون مقبولاً ليشكل المخرج من أجل انتقال هادئ للسلطة من دون الدخول في الفراغ، وهو تشكيل حكومة جديدة توحي بالثقة لا تخضع لأحكام الأكثرية والأقلية أو لمنطق الوحدة الوطنية وتقاسم الحصص. حكومة تدير الأزمة وتستطيع أن تنهي عهود الصفقات والفساد وتعطي أملاً للأجيال التي نزلت إلى الشارع، وأعطيت توصيفات كثيرة والتقت بالإجمال حول نظرة واحدة للدولة وللحكم الصحيح، ولإعادة الإعتبار إلى المؤسسات والكفاءات وللوطن بعيداً من المحسوبيات والصفقات. حكومة تستطيع أن تأخذ القرارات وتنفذها. فالحكومة يمكن أن تسقط ولكن النظام لا يمكن أن يسقط. لقد باتت نتيجة المبارزة واضحة وبات من المعروف من هو الفريق الرابح ومن هو الفريق الخاسر. يبقى انتظار إعلان هذه النتائج وفق الآلية الدستورية التي لا مفر منها من أجل أن تبقى الدولة.