IMLebanon

البطريرك التاريخي والثائر المُلهَم

 

قد يكون هذا المقال من أكثر المقالات إيلاماً بين المقالات التي كتبتها طوال مسيرتي المهنية بين الورقة والقلم والصفحات الإلكترونية. فاليوم ليس ككل الأيام والألم ليس ككل الآلام والجرح ليس ككل الجروح.

 

رحل البطريرك صفير القائد الوطني والثائر الملهم. رحل باني الإستقلال الجديد ومُلهم الثورة وموقظ العنفوان قبل ولوجه المئة بثلاثة أيام (15 أيار 1920).

 

حاشى أن أقول كان صديقاً ، فأنا غير مستحق ـــ كما عوّدنا القول في كل تقريظ له. كان راعياً ومرشداً ومثالاً وطنياً يُحتذى.

 

عندما دعا مجلس المطارنة الموارنة برئاسة المدبر الرسولي المطران ابراهيم الحلو إلى انتخاب بطريرك جديد على رأس الكنيسة المارونية، لم أعرف من أين راودني ذاك الشعور الغريب والرهبة التي تملّكتني. وأذكر جيداً ذلك اليوم وكيف ان تفكيري لم يتمكن لحظة واحدة من محاولة وضع احتمال لاستبدال اسم صفير باسم آخر، على رغم الأسماء الكثيرة والبارزة التي كانت تتردد بين الأساقفة. ولا أذيع سرا اذا قلت ان بين المطارنة من كان ينشط في كل اتجاه مدعوماً بأحزاب سياسية وتوجهات وفّرت له بروزاً اعلامياً كبيراً، حتى بدا لكثيرين ان المسألة محسومة لمصلحة أسقف دون غيره.

 

وحده النائب البطريركي العام آنذاك المطران نصرالله صفير كان هادئاً وصامتاً، وكان اذا سألته مَن هو البطريرك الآتي؟ أجابك «متل ما الله بيريد».

 

ومرّت الأيام الى أن كان يوم السبت 14 نيسان  1986 عشية بدء المجمع الماروني وقبل نحو ساعتين من اقفال أبواب الصرح لبدء الرياضة الروحية يوم الأحد 15 منه، توجهت الى بكركي واتصلت من السنترال بالمطران صفير وقلت له انني أودّ رؤيته، وسأصعد لمقابلته في مكتبه، فأجابني بأن الصلاة تبدأ بعد ربع ساعة (كانت الساعة السادسة الا ربعاً)، فقلت: «دقيقتين سيدنا». فرد: «انتظرني… أنا نازل».

 

ونزل المطران صفير وتمشينا في الباحة الداخلية لبكركي تحت القناطر وبادرني: «ايه حبيب؟» فأجبته: «شو الوضع سيدنا وشو شايف؟» فرد: «بدك تسأل الروح القدس». قلت له: «إلهامي – وربما من الروح القدس – أنك البطريرك المقـبل». فقــال: «لننتظر». وسألته: «وانت شو الهامك؟» فأجاب: «متل ما الله بيريد». ثم رحت اتحدث باختصار شديد عن مواقف الأطراف السياسيين وصولا الى السلطات الرسمية من رئيس الجمهورية (الشيخ أمين الجميل) الى النواب المسيحيين والأحزاب والميليشيات المسيحية من الشمال الى الجنوب مروراً بالجبل، فضلا عن الجهات المؤثرة وخصوصا الأجهزة الرسمية والإعلام من صحف وإذاعات وتلفزيونات، ولا سيما الحزبية منها، لأصل الى الإشارة إلى أن اسمه لا يزال حتى الآن بعيداً عن التداول ولا سيما المحموم منه، والى استنتاج أن ذلك مفيد جداً له. فرد: «انا أفضل عدم تداول الأسماء. خليني بعيد». فقلت: «هيدا رأيي».

 

وبعد صمت وتأمل لبضع خطوات قال ما حرفيته: «انه صليب ثقيل». فأجبته بشيء من الشعور بالسعادة الداخلية: «نحمله معك سيدنا».

 

وأعترف بأن الحديث تجاوز الوقت قليلاً، فبادرته منهياً كلامي: «أخذت من وقتك سيدنا … بدأت الصلاة ولكن ًأنا أعرف انك ستعوض ما فاتك منها».

 

وانتخب المجمع الماروني بإيحاء من الروح القدس و«متل ما الله بيريد» المطران صفير بطريركا يوم الخميس 19 نيسان 1986 وبدأت منذ تلك اللحظة مرحلة جديدة في تاريخ لبنان الحديث. وراح البطريرك الجديد يرسم بالتشاور مع مجلس المطارنة ونوابه العامين سياسة الكنيسة ويرسخ ثوابتها، وهي: «لبنان أولا وأخيرا، وسيادته فوق كل سيادة، وقراره الحر بمعزل عن أي تأثير خارجي، ووحدة اللبنانيين وكرامة كل مجتمعاته مصونتان وفوق كل اعتبار». وهو بدأ منذ اللحظة الاولى يعمل لتفعيل عمل الكنيسة، وراح يبني لتوسيع مشاركة الرهبانيات في مجلس المطارنة، وهو ما بدأ يظهر في الثلث الأول من ولايته البطريركية.

 

ومن الداخل اللبناني الى دنيا الانتشار، نشط البطريرك صفير في بناء جسور مع اللبنانيين المنتشرين في كل أنحاء العالم، وزار الجاليات في كل أقطار الدنيا ورافقته شخصياً في نحو 49 رحلة من رحلاته المختلفة من الولايات المتحدة الى كندا وروسيا والبرازيل وأوستراليا والارجنتين والمكسيك والأوروغواي، إلى قبرص والأردن وقطر والكويت وجنوب افريقيا وساحل العاج والسنغال ونيجيريا وتوغو وبينين وغانا وإيطاليا وفرنسا واسوج وإسبانيا وبلجيكا وسويسرا وبريطانيا والمانيا، والتقى رؤساء هذه الدول وملوكها وأمراءها شارحا القضية اللبنانية من كل جوانبها وحاضّاً قادة العالم على بذل النفوذ لحل الأزمة اللبنانية وإنهاء الوصاية السورية عليه وخروج قواتها وتعزيز قدرات الجيش. ولقيت جهودُه آذاناً صاغية لدى كل من التقاهم، وخصوصاً رؤساء الدول الكبرى ورؤساء حكوماتها من الولايات المتحدة الى فرنسا وبريطانيا وروسيا والأمناء العامين للأمم المتحدة.

 

أما اللبنانيون المنتشرون، فقد أيقظ فيهم البطريرك صفير الحمية اللبنانية، فتحرك كثيرون منهم في كل اتجاه، وأنشأوا تجمعات ضاغطة تولت شرح القضية اللبنانية في مجالس النواب والشيوخ وأمام الحكومات، حتى اذا ما نضجت المساعي وتهيأت الظروف راح يدعو في كل كلماته وخطبه أينما ذهب، وفي عظاته كل أحد، الى الانسحاب السوري من لبنان خصوصاً بعدما انسحب الجيش الإسرائيلي. وتوج دعواته الى الانسحاب السوري في جولته الأميركية – الكندية عام 2000، وهي جولة رسمت خريطة طريق لعودة السيادة، من الأمم المتحدة الى البيت الأبيض والكونغرس الأميركي والنواب، رجوعاً الى بكركي، ومنها استوحيت عنوان كتابي الذي أرّخ هذه الرحلة وصدر على أثرها «طريق العودة».

 

مصالحة الداخل

 

ولم يكن البطريرك صفير بحسب ما لمسته من مواكبتي له يكنّ عداء لسوريا بقصد العداء، إنما كانت مواقفه ناجمة عن تمسك بمبادئ وطنية لا يحيد عنها، تتمثل في أن «لا شريك للبنان في سيادته وفي قراره، كما لا شريك للبنانيين في أرضهم وفي حريتهم وحقوقهم ولقمة عيشهم». وهذه اللاءات أوجدت مناهضين له من المستفيدين من الوصاية والمنتفعين من انحلال الدولة وتبعيتها، ولكنه في المقابل استطاع كوكبة اللبنانيين حوله من كل الطوائف والاتجاهات، ونسج علاقات جيدة مع الشركاء في الوطن بدءاً برؤساء الطوائف، ودعا الى أكثر من قمة روحية في بكركي وشارك في قمم في مراكز دينية أخرى، وبنى علاقات وثيقة مع رؤساء الجمهورية من دون أن يتغاضى عن أخطاء ارتكبها عدد منهم، وأعطى اتفاق الطائف الذي كان الملاذ الأخير لوقف الحرب غطاء مسيحياً على رغم معارضة شديدة لهذا الاتفاق من قيادات مسيحية بارزة، لكنه جاهر في نقد الثُغر فيه، ورفع صوته عاليا ضد الانتقاء في تطبيق بنوده. كذلك نسج علاقات جيدة مع رجال الدولة ودعا رئيس الحكومة رفيق الحريري الى الاستماع الى رأي مجلس المطارنة في الخلل الحاصل في الدولة وسبل معالجته، وامتد لقاؤه بهم لنحو 3 ساعات، وأرسى من خلال زيارته الجبل عام 2001 المصالحة، وكرّس عودة المهجرين بالتعاون مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وهي مصالحة أزعجت سلطة الوصاية التي أوصت بحملة اعتقالات واسعة للمشاركين في استقبالات الجبل، شبيهة بحملة الاعتقالات التي نفذتها سلطة الوصاية و«وكلاؤها» بعد الاستقبال التاريخي الذي حظي به البطريرك صفير والوفد المرافق لدى عودته من زيارة الولايات المتحدة وكندا عام 2000. وعندما تصرفت السلطة بإيحاء من قوى الوصاية بانتقائية وافتئات، جاهر في الدفاع عن العميد ريمون إده والعماد ميشال عون المنفيّين، والدكتور سمير جعجع المسجون سياسياً، وظل ينادي بحريتهم إلى أن عاد أحد المنفيّين وأطلق السجين.

 

زيارة البابا

 

ولم تحل انشغالاته ومسؤولياته الكثيرة في ظروف محلية واقليمية ودولية دقيقة للغاية، دون اهتماماته الدينية والكنسية، فأحدث عدداً من الأبرشيات في دول الانتشار لربط الموارنة بكنيستهم ووطنهم، ورسخ علاقة الكنيسة المارونية بالكنيسة الرومانية الأم، ونسج علاقة مميزة مع البابا يوحنا بولس الثاني الذي خصّ لبنان الذي أحبه، بسينودس، وزاره لإذاعة الإرشاد الرسولي،  والتقى البابا بالمسؤولين وقادة كل الطوائف وجال والبطريرك صفير في «البابا موبيل» بين بكركي وحريصا وبعبدا ووسط بيروت والمطار مستمعاً الى شرح وافٍ عن لبنان، من صديقه وابن عمره رأس الكنيسة المارونية، ووصفتها يومها في مقال في جريدة «النهار» بأنها «أطول خلوة في التاريخ» باح فيها صفير بكل شيء وسمّى كل شيء.

 

كان لكل شيء وقته لدى هذا البطريرك الذي لا ينام. يعمل ولا يستريح، له وقته للعمل والكتابة والتأليف وطباعة عظاته بدءاً بالآلة الكاتبة، وصولا الى الكومبيوتر، كذلك كان يكتب العدد الأكبر من الرقيم البطريركي، ويجمع عظاته في سلسلة كتب «عظة الأحد» والرقيم في كتب «غابت وجوه». صباحاً يبدأ يومه برياضة المشي، ثم صلاة وقداس، فاستراحة واهتمام بشؤون إدارية واستقبالات، وبعد الغداء شيء من رياضة المشي، ثم قضايا إدارية وكتابة، فلقاءات ثم صلاة المساء وقراءات متفرقة وأعمال إدارية حتى ساعة متأخرة، مع قراءات في الإنجيل.

 

مار نصرالله صفير البطريرك التاريخي وصانع الاستقلال الحديث ومُلهم «ثورة الأرز»، المفكر والقائد الوطني، هو رفيق البابا القديس وسليل البطاركة القديسين بناة لبنان من اسطفان الدويهي الى الياس الحويك.