IMLebanon

المثقف المكروه

 

 

«كلما سمعت كلمة ثقافة وضعت يدي على مسدسي» جوزف غوبلز، وزير الدعاية النازي.

«يوم كانت كلماتي غضبًا كنت صديق السلاسل، يوم كانت كلماتي ثورة كنت صديق الزلازل، يوم كان كلامي حنظلًا كنت صديق المتفائل، يوم صار كلامي عسلًا غطّى فمي الذباب» محمود درويش

هناك رواية تُنسب إلى عدد من قياصرة روما حول أحد المرافقين الذي كان يقف وراء القيصر فيما الجموع تهتف له بطول العمر ووسع الرزق والانتصارات بالقول: «تذكّر يا قيصر أنك إنسان». أحب أن أنسب هذه النادرة إلى أحكم قياصرة روما «ماركوس أوريليوس» الذي دفعته قناعاته بالفلسفة «الرواقية» المتحرّرة من الكسب المادي، إلى أن يكون مثلًا اسطوريًا في الحكمة والزعامة المعتدلة والقيادة المتنزهة عن شبق التمسّك بالسلطة. فأعلى مستوى من الحكمة يستند دائمًا على أن يتذكّر، من تهتف له الجماهير بالولاء والطاعة وتتبعه من دون نقاش إلى الموت والانتحار الجماعي، بأنّه مجرّد إنسان يمكنه أن يخطئ في الحسابات ويذلّ على الطريق. وهنا، وبدل أن تأخذه العزة بالإثم، فيتقي ويعيد الحسابات، نراه يجرّ الجميع إلى الجحيم. من هنا، تأتي حاجة القائد إلى من يقف وراءه لينبّهه بأنّ احتمال الخطأ في الحسابات وارد. هنا بالذات يأتي دور المثقف ليكون وراء القائد للنصح وإبداء الرأي من دون مواربة أو خشية من غضب «المعلم». لكن النرجسية الفاقعة، وكثرة المبخرين التافهين حول القائد، ستجعلان حتمًا من مهمّة هذا المثقف عملًا مستحيلًا، وأحيانًا خطرًا على الحياة.

 

واجب المثقف الدائم هو أن يكون محامي الشيطان، أي أن يطرح أسوأ الاحتمالات ويدرسها بعمق ويشرحها من دون مواربة أمام القائد، ومن واجبه أيضًا، إن كان لديه حسّ بالمسؤولية الاجتماعية، وكان مقتنعًا بعقم النصح الذي يبديه، بأن يخرج من حضن القائد معلنًا رأيه إلى العلن، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

 

المصيبة هي في كون الجماهير المأخوذة بإلهام وكاريزما وطيبة قلب القائد، ستقلب الدنيا رأسًا على عقب على ذاك الخارج عن طوع القيادة، فيصبح خائنًا وقليل الوفاء، حتى وإن كان أفنى سنوات طويلة من حياته وسمعته وقدراته في خدمة قضية كان يظن انّ القائد يتبنّاها. لا بأس، فمعظم الناس لا يقرأون إلّا العناوين، فالغوص في الجوهر يجعلهم يفقدون الثقة بصلابة الحائط الذي يستندون إليه، باعتماد البديهي بدل البحث عن جوهر الأشياء. وأتفهم أيضًا، أنّه من الصعوبة بمكان تغيير القناعات، وبالأخص تلك التي تستند إلى مجرد شعارات غامضة، من دون البحث في الجوهر. لكل ذلك، لا يمكن العتب على الجماهير الغفيرة التي تأخذ عقلها الشعارات. بل العتب هو أولًا وأخيرًا على القائد الذي يسدّ أذنيه لنصح الناصحين، ويسمع فقط للطبالين الذين يهلّلون له في كل قول وفعل، وينسجون حوله الأساطير التي لم تخطر له ببال، لكنه يقع بسرعة في فخها ويصدّقها، وأحيانًا يرويها هو عن نفسه، وكأنّها حقيقة ثابتة، مع علمه أنّها من نسج المستشارين الزائفين، المثقفين المنافقين. ألحق ثانيًا هو على المثقف العارف بالواجب عمله، لكنه يخرس عن قول رأيه، ربما حفاظًا على رزقه، أو على رأسه، وأحيانًا خوفًا من أن يصبح في موقع الاتهام المريض من قِبل الجموع المؤمنة بإلهام وقدسية الزعيم.

 

في ذاكرتي الحديثة مثلان عن مثقفين كانا إلى جانب الزعيم النازي «أدولف هتلر»: الأول كان الفيلسوف العظيم «مارتن هيدغر» الذي ظن أنّه من خلال النازية يمكنه أن يبث الروح في الوجود الإنساني، من خلال العودة إلى الجوهر وتوعية البشر لوجودهم خارج هيمنة التكنولوجيا التي حوّلتهم إلى مجرد أشياء في عالم الأشياء. لكنه، بعد تجربة وجيزة في النازية بين سنتي 1933 و1934، أدرك أنّ القائد قد صمخّت أذنيه هتافات الملايين من الجماهير. لكن هيدغر لم يجاهر باستقالته من الحزب لأسباب لم يقلها أبدًا حتى بعد زوال النازية، لكن وصمة «الهتلرية» بقيت تلاحقه لسنوات عديدة، كما لاحقت فكره العظيم لعقود عدة، إلى أن أعاد العالم اكتشافه بعد سنوات من وفاته.

 

المثقف الآخر كان «الفرد روزنبرغ»، منظّر النازية الذي بنى جملة من النظريات العلمية الكاذبة، لمجرد إثبات رؤيا القائد هتلر في كتاب «كفاحي» المقدّس لدى النازيين. روزبرغ كان يرى في هيدغر الفيلسوف العميق الثقافة، خطرًا على مكانته كطبّال مثالي للزعيم، فحاول إبعاده منذ البداية، لا بل حاول محاصرته في الجامعة التي ترأسها. فيما هو كان لا يعترض ولا ينصح، بل يسعى فقط لنسج النظريات الأسطورية لتأييد قرارات الزعيم، حتى عندما وصلت الأمور إلى انهيار ألمانيا ومقتل اثنا عشر مليونًا من أهلها، مع عشرات الملايين آخرين. بالنهاية، حوكم روزنبرغ مع خمسة آلاف آخرين من قادة النازية وأُعدموا بجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب. وبالرغم من أنّ هيدغر تعرّض للاضطهاد من قِبل النازيين في أواخر الحرب، إلّا أنّه أُقصي بشكل مهين عن مهامه الأكاديمية لسنوات طويلة. فدفع بذلك ثمن سكوته، ربما لأنّه ظنّ أنّ ببقائه كان يمكن أن يلطّف من جموح الطبّالين، أو ربما لأنّه خاف على حياته، أو أراد الحفاظ على موقعه الأكاديمي، أو ربما أراد تفادي نعته بالخائن وغير الوفي من قِبل الجماهير التي آمنت بعظمة هتلر، وكانت تنتظر أعجوبة تعيد المجد، حتى عندما وصلت الجيوش السوفياتية على أبواب برلين.

 

من هنا، فإنّ دور المثقف الجاد يبقى مكروهًا، إلّا إن حظي بقائد مثل ماركوس أوريليوس، يتذكّر أنّه بالنهاية إنسان.