IMLebanon

الجمهورية الإسلامية في إيران وحلم الدولة العميقة

 

تدخل المواجهة بين الولايات المتّحدة وإيران مع اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة، في ضاحية من ضواحي طهران، مرحلة حرجة. هذا الإغتيال هو الخامس في سلسلة إغتيالات استهدفت القدرات الإيرانية المتّصلة بالمشروع النووي بشقّه العسكري منذ العام 2010. هذه الاغتيالات التي طالت كلّ من «مسعود علي محمدي» أستاذ فيزياء الجُسيمات في جامعة طهران (كانون الثاني/ يناير2010)، ومجيد شهرياري العالم الذي أدار مشروعاً ضخماً لمنظمة الطاقة الذريّة في طهران (تشرين الثاني/نوفمبر 2010)، وداريوش رضائي (تموز/يوليو 2011) ومن بعدهم مصطفى أحمدي روشن المشرف على التخصيب في منشأة ناطنز (يناير/كانون الثاني 2012)، توقفت بالتزامن مع تقدم المفاوضات بين طهران والدول (5+1) التي أوصلت إلى الاتّفاق النووي، وبالتوازي معها إمتنع الكونغرس عن التصويت على الضربة العسكرية الأميركية على سوريا في سبتمبر/ أيلول 2013 ، ردّاً على الهجوم الكيماوي للنظام السوري. كلّ ذلك يجعل من المنطقي القول أنّ استيعاب الطموح النووي الإيراني كان هدفاً أميركياً وأنّ مسلسل الاغتيالات المتلاحقة كان أحد الأسباب التي أخضعت إيران للتفاوض!!!

 

يأتي اغتيال محسن فخري زاده عرّاب المشاريع المتخصّصة بالقنبلة النووية، المقرّب من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية خلال الاسبوع المنصرم، في سياق مرحلة ابتدأت فصولها في العام 2016. فقد كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» حينها، أنّ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد» قد استولى على مئات آلاف الوثائق السرية (50 ألف صفحة + 163 قرصاً مدمجاً) تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، خلال عملية نفذّها في كانون الثاني/يناير 2018 بعد أن تعرّف الى مقرّها في فبراير/شباط 2016. وقد أوردت الصحيفة أنّ رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين أطلع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تفاصيل العملية.

 

شكّلت هذه العملية الدافع الأساس لانسحاب الولايات المتّحدة من الاتّفاق النووي في 8 مايو/أيار 2018، وربما لإعطاء إشارة الانطلاق لإخضاع طهران. توالت منذ ذلك الحين الضربات الجوية الإسرائيلية أو المجهولة المصدر التي طالت البنية التحتيّة للحرس الثوري الإيراني وقياداته في سوريا، والميليشيات الشيعية ومن ضمنها حزب الله المنتشرة من الجولان حتى شمال شرق سوريا والتي بلغت مئة ضربة خلال العام المنصرم، واغتيال قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس في العراق في 3 كانون الثاني/يناير2020، وكذلك اغتيال عبد الله أحمد عبد الله الملقب بـ«أبو محمد المصري» في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة المقيم في طهران منذ العام 2003، والمتورط في تفجير سفارتيّ الولايات المتّحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998، وتفجير مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020.

 

استُنفرت الدولة العميقة في الولايات المتّحدة مع قرار الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من الاتّفاق النووي شعوراً بالخديعة وميلاً للثأر، لا سيما بعد أن أظهرت طهران تمسّكاً بتطوير قدراتها النووية العسكرية وبرنامج الصواريخ البالستية الدقيقة. الإصرار الأميركي على إسقاط هيبة طهران ومعاقبتها حيث وجدت، سجّل للمرة الأولى تغييراً كبيراً في العلاقات بينهما التي طالما بُنيت على تسويات إستبطنت تمسّكاً أميركياً بدور لطهران في المنطقة. وفي هذا الإطار يمكن فهم تسريع وتيرة الاتفاقات الخليجية الإسرائيلية والقفز بها إلى مرحلة التطبيع، وإطلاق ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية، بما يخضع الإدارة الأميركية الجديدة لقواعد متصلة بالمصالح الاستراتيجية وبالأمن القومي الأميركي وبما لا يمكن العودة إلى ما قبلها.

 

الردود الإيرانية التي واكبت التصعيد الأميركي لم ترقَ إلى مستوى التّحدي المفروض. حافظت طهران على نمط تهديد الاستقرار، وتثبيت منطق الفوضى واللادولة في لبنان والعراق وسوريا،  سواء بنشر ميليشيات سورية ولبنانية في الجولان، وفي البوكمال حيث تتمركز الوحدات الأميركية، أو بإطلاق بعض الصواريخ على المنطقة الخضراء في بغداد وتهديد المنشآت النفطية في جنوب المملكة العربية السعودية، أو التهديد بتلويث البحر الأحمر وعدم السماح بالكشف على خزان «صافر» النفطي. الردود الإيرانية بقيت من دون إنقاذ هيبة إيران وهشاشة قدراتها الأمنية. موافقة البرلمان الإيراني قبل يومين على مشروع «الإجراءات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات الأميركية»، وهو قانون يلزم هيئة الطاقة الذرية الوطنية برفع تخصيب اليورانيوم في محطة «فوردو» النووية إلى 20%، لن يجبر واشنطن على إلغاء العقوبات على إيران، بل سيحرج الأوروبيين ولن يشكّل مادة للتفاوض مع الأميركيين، وهو ليس سوى دليل إضافي على اتّخاذ القرارات تحت صدمة اغتيال محسن فخري زاده وقبله تحت صدمة اغتيال قاسم سليماني.

 

لا تبدو واشنطن راغبة بالعودة إلى معادلة التفاوض مع طهران، تحت عنوان إنقاذ الاستقرار في كلّ من سوريا ولبنان والعراق، وهي نجحت بقذف هذه الكرة إلى الملعب الإيراني وانتقلت من تلقف الفرص التي تتيحها طهران، كما حصل سابقاً في الدوحة، إلى تحميلها مسؤولية الانهيار. تحاول طهران عبثاً بالرغم من خسائرها اليومية الاستفادة من الوقت الضائع وتكرار تجربة حزب الله في سوريا وتعجز عن تحقيق أي نجاح، فيما يُفرغ الثقل الأميركي في لبنان تجربتها من كلّ مضمون بالتركيز على دورها في دعم الإرهاب والتطرّف وتبييض الأموال، ومنعها من إنتاج حكومات تحت السيطرة تحت طائلة توسيع دائرة العقوبات على حلفائها وتوسيع العمليات العسكرية ضدها.

 

محصّلة الإجراءات الأميركية وردود الفعل الإيرانية تثبت أنّ هناك فريقاً يخسر وآخر يربح. اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، هو إعلان واضح بأنّ كلّ الساحات متاحة للمواجهة، وأنّ الدولة العميقة في طهران التي حققت أطماعها بتهديد الاستقرار الإقليمي مهدّدة بالسقوط وهذا ما يقلق طهران حتى الموت.