IMLebanon

ما هو المدخل للحلّ اللبناني؟

دلّت التجربة منذ العام 1943 على انّ اتفاق اللبنانيين على معنى لبنان ودوره غير ممكن، ولولا ميزان القوى الخارجي والداخلي لَما استقلّ لبنان تحت عنوان لا شرق ولا غرب.
 

الاتفاق من فوق، بين القوى السياسية في استقلال الأربعينات، لم ينسحب على تحت، بين القواعد التي بقيت مشدودة إلى خياراتها بين فريق متخوِّف من ابتعاد الغرب فيهيمن الشرق على لبنان، وبين فريق لا يعني لبنان له شيئاً باستثناء انّ الاستعمار سَلخه من الأمة الأوسَع.

 

ولأنّ انقسام الشارع أقوى من اتفاق القوى السياسية اهتزّت معادلة الـ43 في العام 1958 إلى ان وقعت نهائياً في العام 1975، وما زالت القيامة حتى اليوم مستبعدة. وفي كل المراحل التي شهدت استقراراً وازدهاراً بين عامي 43 و75 بقي الانقسام الوجودي على حاله ولو كان مُضمراً، وهذا ما يفسِّر انّ المظلة السياسية كانت هجينة ولم تتمكن من حماية الجمهورية من السقوط المدوي.

 

فالحقيقة المرة هي انّ اللبنانيين لم يتفقوا يوماً على نهائية لبنان ودوره، والتحول الذي حصل في العام 2005 مع انتفاضة الاستقلال تَمثّل بانضمام المجموعتين السنية والدرزية إلى عنوان «لبنان أولاً»، وخروج المجموعة الشيعية التي يمثِّلها «حزب الله» إلى الفضاء الإقليمي، ما يعني انّ التسوية التي حصلت في اتفاق الطائف بين المجموعتين المسيحية والإسلامية على معنى لبنان نَسفها الحزب من أساسها معيداً الوضع إلى المربّع الأول، مع فارق انه بدلاً من ان يكون الانقسام طائفي الطابع تحوّل إلى وطني الطابع، إنما لم تختلف النتيجة لجهة انّ الانقسام ما زال نفسه، والدولة لا زالت مغيبة، ما يعني مكانك راوِح.

 

وهناك بعض الخبثاء او المتشائمين يقولون انه في حال تخلى «حزب الله» يوماً عن مشروعه الإقليمي لاعتبارات خارجية، فإنّ الكتلة السنية ستعود إلى خيارها الإقليمي على حساب اللبناني في حال قيام نظام سني في سوريا او بروز قيادة سنية إقليمية، وبالتالي الوصول إلى اتفاق عميق بين اللبنانيين على دور لبنان هو أضغاث أحلام.

 

فلا يكفي وجود قيادة سياسية ضامنة لاتفاق كياني ما لم يتحوّل هذا الاتفاق إلى قناعة شعبية راسخة، ولكن من دون التقليل من أهمية الموقف القيادي إذا كان ينمّ عن قناعة فعلية وساهم بإقناع القواعد بنهائية لبنان، ولم يكن وليد عوامل اضطرّته إلى هذا التَموضع الذي سرعان ما سيتراجع عنه مع بروز عوامل خارجية تساعده على تعزيز مكاسبه في النظام السياسي وتحقيق أهدافه العقائدية المُضمرة ونظرته الإيمانية المستترة.

 

فالمطلوب عمليّاً قناعة من فوق ومن تحت بالمبادئ الأساسية المؤسِسة للجمهورية اللبنانية، وفي طليعتها تحييد لبنان عن صراعات الخارج والإقرار بنهائية هذا البلد وباحتكار الدولة وحدها للسلطة والقرار، وجَعل الخلاف ما دون الأساسيات التي في حال الخلاف حولها تسقط الجمهورية، وما لم يُصر إلى الفصل بين الثوابت الوطنية التي يجب ان تكون مشتركة، وبين اليوميات السياسية والأهداف السلطوية تحت السقف المشترك، فعبثاً البحث عن حلول وصيَغ لإخراج لبنان من أزمته.

 

ولأنّ الاتفاق على الأساسيات، التي هي مجرد بديهيات في أي دولة في العالم، سيبقى مُستبعداً، فإنّ الأمل الوحيد يبقى في ميزان القوى الخارجي والداخلي الذي وحده يمكن ان يعيد القرار إلى الدولة والانتظام إلى المؤسسات والاستقرار إلى البلد، فميزان القوى هو الذي أنتَج معادلة العام 43، وهو نفسه أتاح تجاوز أزمة العام 58 قبل ان يسقط البلد في اتفاق القاهرة ومتمّماته.

 

ولكن ماذا لو عاد وتبدّل هذا الميزان فهل سيكون مصير الدولة السقوط الحتمي مجدداً؟ فبمعزل عن النصف الفارغ من الكوب، يجب على القوى السياسية على اختلافها التقاط هذه اللحظة عندما تتحقق من أجل تدعيم الفكرة اللبنانية وإقناع اللبنانيين بالممارسة بأنّ الدولة وحدها تشكّل ملاذهم وخلاصهم ومصلحتهم الأولى والأخيرة.

 

فالرهان الوحيد هو على اتفاق دولي مع إيران يقضي بتغيير دورها الإقليمي، وأن ينسحب بموجبه «حزب الله» من أزمات المنطقة ويسلِّم سلاحه للدولة ويلتزم بالعمل السياسي تحت سقف الدستور والمؤسسات، فيتحقق عندذاك ما كان يجب ان يتحقق في العام 1990، وما لم تحصل التسوية الدولية-الإقليمية سيبقى الوضع اللبناني معلّقاً على أزمات المنطقة، وكل الحلول الأخرى ستبقى جزئية وترقيعية ومنتقصة.

 

ويقتضي الإقرار بأنه مع تراجع إيران عن مشروعها الإقليمي تنتظم الأمور في لبنان، لأنّ القوى السنية الأساسية تخلّت عن مشاريع الأمة والوحدة العربية، لا بل هذه المشاريع تحوّلت إلى خطر عليها. وبالتالي، مع انتفاء المشروع الإقليمي السني سينتظم كل سنّة المنطقة بخَطّهم التمثيلي العريض داخل دولهم بتبديَتهم المشاريع المحلية على الخارجية، وهذا ما هو حاصل عملياً منذ العام 2005.

 

وإذا كان الوعي الشعبي هو فِعل تراكمي يستدعي التدعيم بخطوات ملموسة من قبل الدولة لإشعار المواطن انّ ضمانته الوحيدة في مأكله ومشربه ورفاهيته وعمله ومستقبله ووجوده هي الدولة التي تحكم بالدستور والقانون والحق والمساواة، بخاصة انّ الفريق المُستقوي بالسلاح والدور الإقليمي فشل في توفير مستلزمات الناس المعيشية وأطاح بالاستقرار المالي والسياسي والمجتمعي، إلّا انّ المدخل لكل ذلك يكمن فقط في تعديل ميزان القوى الخارجي بما يسمح باستعادة الحقبة الممتدة من العام 1943 إلى العام 1958، ومن العام 1958 بعد الحوادث الشهيرة إلى العام 1969، فلولا اتفاق الخيمة الشهير بين الرئيسين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب هل كان بإمكان لبنان ان ينعم بالاستقرار؟

 

فلا حلّ للمسألة اللبنانية باتفاق سياسي محلي، وأي اتفاق من هذا النوع يجب ان يستتبع او ان يأتي ترجمة لواقع إقليمي جديد تتراجع طهران بموجبه عن دورها الإقليمي الثوري فينتظم «حزب الله» عندذاك تحت سقف المؤسسات الدستورية، وبقدر ما يدوم التموضع الإقليمي يدوم الاستقرار اللبناني، إلّا في حال حصول «أعجوبة» يَنتج عنها ولادة وعي لبناني قوامه الاتفاق على نهائية لبنان وتحييده عن محاور الخارج والتزام العمل السياسي الديموقراطي تحت سقف المؤسسات، وما لم يحصل السلام الإقليمي فالسلام اللبناني لن يتحقق.