IMLebanon

متى تصنع بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق التاريخ الجديد للبنان؟

يمرّ الشّرق الأوسط بمخاض يشابه المخاض الذي يحصل في الحروب الكبرى. كلّ حرب كبيرة، أثمرت تحوّلات في الواقع الدّاخلي للدّول، وفي العلاقات الدّوليّة. فبعد الحرب العالميّة الأولى، إنتهى زمن باكس بريطانيا وبدأت مسيرة جديدة في واقع الدّول، داخليّا وفي العلاقات الدّوليّة. لكنّها لم تنضج، بسبب اعتماد الولايات المتّحدة الإنعزاليّة، رغم أنّ الرئيس ويلسون، هو الذي صاغ مبادئ النّظام الدّولي الجديد. وعليه، وقعت سريعا الحرب العالميّة الثّانية. فكرة الدّولة القوميّة، وطغيان المصالح الوطنيّة الخاصّة، على فكرة اللّيبراليّة الدّوليّة، ونظام المؤسّسات، دفع بالعالم من جديد إلى أتون حرب مدمّرة أخرى.

شهد العالم مجدّدا على أثر تلك الحرب، تحوّلات هائلة، أهمّها تجديد الإيمان باللّيبراليّة الدّوليّة، ونظام المؤسّسات، كوسيلة وحيدة لتحقيق الأمن والسّلم الدّوليّين. كما تزايدت قدما فكرة التّحرّر من الإستعمار. من المؤسف أن استمرار الشّكوك بين الشّرق والغرب، منع قيام نظام تعايش بينهما. ولذلك، تابع الإتّحاد السّوفياتي استراتيجيّة عمله قبل الحرب العالميّة الثّانية، من خلال تفعيل فكرة لينين الأساسيّة، بإقامة الكومنترون السّوفياتي، بغية خلق الثّورات المعادية للرّأسماليّة، ومنح الأحزاب المواليه له، الفرصة لوضع أيديها على الأنظمة في تلك البلدان. كان من الممكن أن يؤدي هذا الصّراع مجدّدا، إلى حرب عالميّة ساخنة ثالثة. لكنّ انتشار الأسلحة النّوويّة، شكّل رادعا للجميع، فبرزت الحرب الباردة بين الشّرق والغرب. هذه الحرب، هي عمليّا، حرب عالميّة، لكن، من خلال أطراف ثالثة. كانت حربا باردة بالنّسبة للقوى الكبرى، ولكن ساخنة بالنّسبة للدّول الصّغيرة. وقد كان لبنان، وما زال، منذ عام 1975، أحد السّاحات لهذه الحرب.
إنتهت الحرب الباردة. وتمّ مجدّدا تعزيز دور المؤسّسات الدّوليّة، كوسيلة ضروريّة لتسوية أيّة نزاعات مستقبليّة محتملة. غاب العامل الإيديولوجي، وطغى النّظام الإقتصادي الحرّ. لكن سريعا ما برزت مجدّدا المصالح الوطنيّة الخاصّة، وخاصّة، لدى الدّول الغربيّة الرّافضة لمشاركة الآخرين في توزيع الثّروة العالميّة. فسعت هذه الدول إلى وضع اليد على مصادر القوّة الماليّة والاقتصاديّة في العالم. وهكذا أعادت فكرة الإستعمار، لكن الإقتصادي، بدلا من الإستعمار العسكري. واستغلّت كل المعطيات لهذا الغرض، ولا سيّما، العامل الدّيني، وشراء الذمم، الذي كان وسيلتها التّاريخيّة، لوضوع اليد على الدّول الأخرى.
تضافر عاملان في دفع المصالح الوطنيّة لدى الغرب. الأوّل: الحفاظ على نظام بريتون وودز المالي، وحكم الدّولار في المسيرة الماليّة الدّوليّة. والثّاني، المرتبط بقوّة، بالعامل الأول، هو خدمة الأهداف الصّهيونيّة، بسبب السّيطرة اليهوديّة السّياسيّة (الصهيونيّة)، على النّظام المالي في الغرب. وعليه، صار الشّرق الأوسط مركز الصّراع الأساسي في حركة الدّفاع عن المصالح الوطنيّة الخاصّة للغرب. وبرز الظّلم الكبير الذي شهدته شعوبه، تحت عنوان كاذب، إسمه: «الرّبيع العربي». لكنّه في الواقع، هو نموذج عن الكومنترون السّوفياتي، تحت عنوان الفوضى «الخلّاقة».
العامل الدّيني إذا، هو المحرّك لهذه الفوضى التي لن تتوقف في أيّ بلد، إلّا بعد خضوعه لنظام موالٍ للغرب. ولهذا السّبب لم تعان الدّول الحليفة عمليّا للغرب، من هذه الفوضى. لبنان لم يكن حليفا للغرب، وهو أُخضع لسورية ولنظامها الضّبابي بعد اتّفاق الطّائف، رغم أنّ سورية أفسحت لإيران، بالتّدخّل العريض في المنطقة، وسمحت بإنشاء قواعد للحرس الثّوري في البقاع، وبإقامة حزب تابع لها، هو «حزب الله». سورية كانت مستعدّة للتّحوّل الإيجابي نحو الغرب، لكن بشروط لم يقبلها الغرب. وكلنا نعرف التّطوّرات اللّاحقة وكيف خرجت سورية من لبنان. وكان من المفترض استكمال تلك الخطوة، بخطوة ضبط «الحزب». لكنّ سورية أفشلت تلك الخطّة، من خلال تحويل القوى اللّبنانيّة التّابعة لها، لمصلحة الحزب، وبالتّالي لمصلحة إيران. دخلت إيران علنا إلى ساحة لبنان، وحلّت مكان سورية.
السؤال الآن هو، لماذا لم يتمكّن المجتمع الدّولي من إتّخاذ خطوة ضدّ إيران، لطردها من لبنان، مشابهة لخطوة طرد سورية. السّبب وبكل اختصار هو، عدم وجود توافق دولي بهذا الصّدد. فالدّور الفرنسي، يحمي في معسكر الّدّول الغربيّة، نّظام ولاية الفقيه الإيراني. كما كانت تحمي بريطانيا نظام الأخوان المسلمين. نظام ولاية الفقيه في إيران، شكّل لفرنسا قاعدة حضور سياسي ناشط في السياسة الدّوليّة. لا يوجد أيّ مكان آخر في آسيا، يمكن من خلاله لفرنسا، أن تلعب مثل هذا الدور في حركة السّياسة الدّوليّة في تلك القارّة. ولاية الفقيه في إيران في هذا القرن، صارت بالنّسبة لفرنسا، كالبطريركيّة المارونيّة في لبنان، في النّصف الثّاني للقرن الثّامن عشر، والقرن التّاسع عشر. لقد تمكّنت فرنسا في حينه، من مواجهة الهيمنة البريطانيّة على الشّرق الأدنى، من خلال الكنيسة المارونيّة. وساهمت من خلال دعم حكم علي باشا المصري، وحكم بشير الشّهابي الثّاني، بإثارة مطلب ماروني لوضع اليد على جبل لبنان، بحجّة التّفوّق العددي، وتحت عنوان الحفاظ على الحضور المستقل في الدّولة العثمانيّة الإسلاميّة. أدّى هذا المطلب إلى صراع طائفيّ مع الدّروز، أسياد الجبل في حينه. فرنسا لعبت كقوّة استعماريّة، على هذا الوتر الطّائفي عند الموارنة، كي تتحوّل إلى القوّة الأوروبّيّة الضّامنة لهم، أمام السّلطنة العثمانية، مما يسمح لهم بالتّدخّل في شؤونها، والمشاركة في لعبة تقسيم ميراثها في الشّرق. سارع الإنكليز إلى دعم الدّروز في حينه. كان هذا الرّدّ الشكل الأنسب للعب دور مماثل كقوّة أوروبّيّة ضامنة للأقليّات لدى السّلطنة.

هذا التضامن من الكنيسة المارونية مع فرنسا هو الذي سمح واقعيّا لفرنسا، أن تواجه بريطانيا خلال مؤتمر باريس للسّلام عام 1919. فقد كان إتّفاق سايكس بيكو، سقط فعليّا بعد سقوط الإمبراطوريّة الرّوسيّة، واحتلال بريطانيا العسكري لكلّ المنطقة. لقد قبلت بريطانيا التي كانت تحتلّ الشّرق الأدنى، بدور فرنسيّ في هذه المنطقة، بعد تنازل فرنسيّ لها عن فلسطين. وأعلنت أنّها تقبل بطلب فرنسا الوصاية على لبنان وسورية، بسبب العلاقات التّاريخيّة التّقليديّة لفرنسا في لبنان، وليس بسبب سايكس بيكو. ومن الواضح اليوم وباختصار، أنّ فرنسا عادت تلعب على وتر هذه العلاقات للبقاء كلاعب أساسيّ في هذا البلد. فالعودة إلى طغيان المصالح الوطنيّة الخاصّة (فكر الدّولة القوميّة)، على نظام المؤسّسات (فكر اللّيبراليّة الدّوليّة)، دفع إلى هذا الدّور. ولكنّ فرنسا، أضافت عامل علاقاتها مع نظام ولاية الفقيه، بغية إقامة توازن بين علاقاتها التّاريخيّة مع الطوائف في لبنان، وحاجاتها الرّاهنة لنظام ولاية الفقيه في إيران، في الصراع الدولي.
لم تكن الكنيسة المسيحية يوما بحاجة إلى دعم فرنسا ضدّ أهلها من الطّوائف الأخرى في لبنان. لا أحد في لبنان يريد القضاء على الموارنة. والكنيسة تعلم ذلك، بدليل أنّ البطريرك الحويّك، لم يتردّد مع نهاية الدّولة العثمانيّة، بطلب إعلان لبنان الكبير الذي يضمّ الطّوائف اللّبنانيّة الأخرى. فرنسا لم تتردّد في دعم هذا الطلب في حينه. كان الهمّ بالنسبة للموارنة والأقلّيّات الأخرى في لبنان، هو الحفاظ على سيادة هذا الوطن واستقلاله، ورفض ضمّه إلى سورية أو غيرها. تأكّد هذا الأمر، بعد أن اختلف الفكر القومي العربي عند اللّبنانيّين عن غيرهم. فهم طالبوا بفكر قوميّ ليبيرالي علماني. أمّا الاخرون، فأصرّوا على الرّابط الدّيني. وقد شكّل الميثاق الوطني قوّة الدّفع لإستقلال لبنان ونهضته.
ربحت فرنسا في حينه، الرّهان على الكنيسة المارونيّة، ولكن أيضا، على إرادة الطّوائف الأخرى بالعيش المشترك، في دولة مستقلّة ذات سيادة. فصارت صديقة للجميع. تعلم فرنسا أن صداقتها للطوائف في لبنان هي التي تحفظ دورها في هذا الشّرق. وهي الآن تغامر بلعب ورقة التّوازن بين نظام ولاية الفقيه ومصالحه، التي هي أكبر من موضوع طائفة شيعيّة في لبنان، ومن نظام العيش المشترك النموذجي فيه. مصالح نظام ولاية الفقيه لا تتوقّف عند لبنان. ولذلك، إنقلب حزب الله على إعلان بعبدا. فرنسا، ترهن وضع لبنان إلى هذه اللعبة المتشعّبة لنظام ولاية الفقيه في المنطقة والعالم، بسبب صداقتها مع طوائفه. قدمت فرنسا، وبرضى من بعض دول المعسكر الغربي، جوائز ترضية لقيادات الطّوائف الأخرى في اتّفاق الدّوحة عام 2008، بإقامة نظام المحاصصة. هذه الدّول تساعد للأسف، في الإنهيار الإقتصادي في لبنان، من خلال التّورية على سرقة المال العامّ القائم تحت عنوان المحاصصة. هذا ظلم كبير. مرّة أخرى، يدفع لبنان ثمن صراع المصالح الوطنيّة الخاصّة للدول الكبرى. عادت دول الغرب إلى نهجها الإستعماري القديم من خلال شراء الذّمم الوطنيّة وإقامة الدمى السّياسيّة. وكما قال الكاتب آرا خاجادور في مقالته الأخيرة عن العراق: «المراوحة بين الإحتلال الظّاهر والمبطّن»:
[لا يستطيع خدم الإحتلال بكلّ أنواعهم ودرجاتهم، التّفاخر بأنّهم قدّموا شيئاً للشّعب اللّبناني، لا على صعيد الحرّيّات الدّيمقراطيّة، ولا على صعيد الحقوق الإجتماعيّة وإعادة البناء. فلبنان المحتلّ، يعاني اليوم من فقدان أو تراجع خدمات المياه الصّالحة للشّرب، والكهرباء، وكلّ أنواع الخدمات العامّة الحيويّة. وتسوده البطالة، والرّشوة، وإنعدام الأمن. أقوى القوى العسكريّة والإقتصاديّة في العالم، عجزت طوال عشرين سنة، عمّا يُمكن أن تنفّذه دولة نامية في سنوات قليلة، على صعيد إعادة بناء الطّاقة الكهربائيّة، وخدمات المياه التي دمّرتها آلة الحروب العدوانية على لبنان قبل وبعد احتلاله. أليس ذلك كلّه بسبب سياسية معدّة سلفا، وليس أخطرها سرقة وسلب ونهب الممتلكات والأموال العامّة والخاصّة، التي شارك فيها المحتلّ نفسه، وعلى رؤوس الأشهاد الى جانب خدمه؟] (قمنا فقط باستبدال الإشارة إلى العراق بالإشارة إلى لبنان).

ad
لقد كان آخر نماذج هذا الظّلم، هو دفع زعماء الطّوائف المشترون بعامل المحاصصة والفساد، إلى قبول تلك التّسوية العار المخزية، بشأن ترسيم الحدود البحريّة، وقبلها التّورية على جريمة تفجير المرفأ. كلّنا يعلم، أنّه لولا موافقة نظام ولاية الفقيه، بطلب فرنسي، وتوجيه حزبه في لبنان لتغطية هذه التّسوية، لما حصلت. خسر لبنان مساحات واسعة من مياهه الإقليميّة وثرواته الوطنيّة في ترتيب فرنسيّ، كان هدفه أصلا خدمة مصالح إسرائيل، وهذا كلّ ما كان يهمّ أميركا. فمصالح فرنسا، كانت مضمونة أصلا، من دون هذا الإتّفاق.
لا يجوز أن يستمرّ هذا الحال. وهو لن يستمرّ. فلا حال يدوم، ولا بدّ لهذا الليل أن ينجلي. قد لا يتمّ ذلك قريبا، لكنّ التّاريخ الموثّق عن مواقف «الزّعماء من روحيّين وزمنيّين»، سيعيش إلى الأبد، وستلاحقهم لعنة الأبناء والأحفاد، كما تلاحق اللّعنات الآن، نيرون الرّوماني. التّاريخ لن يرحم. إذا كان الموارنة بحاجة إلى دعم فرنسا للحفاظ على استقلال لبنان، ووجودهم القوي في هذا الشّرق، فإنّ فرنسا بحاجة للموارنة، للبقاء في الشّرق. كفى قهرا بأهلنا وشعبنا. هل ستعيدون تمثيليّة ميشال عون، فينبثق ماروني آخر للمساهمة في تمزيق لبنان؟ على بطريركيّة الموارنة قيادة موقف رافض لمثل تلك المسرحية المدمية، وإلى حركة ناشطة لتطبيق اتّفاق الطائف وإقامة وطن. وعليها قبل كل شيء أن تقنع السيد ماكرون بأن اللّبنانيّين استفاقوا، ولن يستطيع المقامرة أكثر بمستقبلهم. ولا مناص من أن تضمن فرنسا حياد لبنان، وإخراجه من لعبة إيران في هذا الشّرق والعالم، مثلما ضمنت سابقا، قيام لبنان الكبير، ودوره الإستقلاليّ الحضاريّ بين الشّعوب. مرّة أخرى نناشدكم الذّهاب إلى الأمم المتّحدة، والدّعوة من على منبرها، لتطبيق قراراتها بشأن لبنان، واستعادة نظام القانون (الدّولي والوطني) في هذا البلد.