IMLebanon

لحظة اختمار التأليف.. لحظة التوفيق بين اعتبارين دستوري وعمليّ

 

اعتباران يتناقضان بالضرورة، ولا مناص مع ذلك من السعي لأجل الجمع بينهما، إنّما يتوقف كلّ التحدّي على كيفية الجمع وشروطه وتداعياته.

 

الاعتبار الأوّل عدم زيادة نظامنا السياسي تشويهاً على تشويه، من فوق ما هو متصدّع في آليات احتكامه إلى الدستور وآليات اشتغال المؤسسات الدستورية وتأديتها لوظائفها. في هذا السياق يمكن القول أننا نبتعد عن مفهوم “الديموقراطية البرلمانية” أكثر فأكثر، وأنّ “الديموقراطية التوافقية والميثاقية” التي أريد بها في البدء التخفيف من جموح “قانون العدد” وإفساح المجال رحباً للتعدّد سرعان ما تطوّرت كمسار ابتعادي أكثر فأكثر عن مفهوم “الديموقراطية البرلمانية” القائمة على الفصل بين السلطات وتعاونها، بحيث تنبثق الحكومة عن الأكثرية البرلمانية وتتخذ المعارضة البرلمانية طابع “حكومة ظل” تراقب وتسائل، وتتطلّع إما لتبدل الموازين ضمن الخارطة البرلمانية، وإما لتبدّلها في صناديق الإقتراع عند الإحتكام الدوريّ إليها.

 

“الديموقراطية التوافقية” تخطّت في المقال اللبناني ما كان يمكن أن يسوّغ لها حيثية نسبية في علم السياسة، كتقنين للعددية بالتعددية في حدود معينة، وكاقتضاء الإجماع الوطني على الخيارات الكيانية والإستراتيجية، لتتحول إلى معايشة للإنقسام على هذه الخيارات من ناحية، واقتضاء إجماعات كيفية وتعسفية على أمور فرعية، والابتعاد عن منطق الفصل بين السلطات، بصيرورة البرلمان حكومة موسعة، والحكومة برلماناً مصغّراً.

 

الاعتبار الأوّل، معياري ودستوري، ومختصره في اللحظة الراهنة أن اعتماد النسبية معياراً لتشكيل الحكومة ليس بمنطق دستوري، خصوصاً إذا ما اتجه الأمر لتكريس هذا الأمر، كما ان اعتماد النسبية الحكومية معياراً لا يكفل التسريع بالتأليف كون كل طرف صور ينظر إلى النسبية في توزع المقاعد والحقائب انطلاقاً من الزاوية الخاصة التي تعنيه، والتي يزن فيها الأمور.

 

الاعتبار الثاني يدعو في المقابل إلى عدم ترك منفذ للفراغ والتعطيل والحالات المعلقة والمؤجلة، ففي هذا ضرر مضاعف على الضرر الذي سيصيبه الإنحراف المتزايد عن المرجعية الدستورية وعن مفهوم الديموقراطية البرلمانية ومنطق الفصل بين السلطات. هنا اعتبار عملي، لكن له حدوده وشروطه أيضاً. في طليعة تلك تأمين الحد الأدنى من الفاعلية والوحدة الحكومية بشكل منسجم مع تعدديتها السياسية. ليس عن “تجانس مثالي” يجري الحديث هنا، بل عن “تجانس بالحد الأدنى”، أي أن ينهض مجلس وزاري قادر على متابعة عمله بالايقاع المؤسسي الطبيعي، بدلاً من أن يؤدي التهرب من هامة الفراغ والتعطيل الآن إلى معايشة أنواع تعطيل وابتزاز متقطعة، مرة كل اسبوعين. هذا يتصل أيضاً بالملفات التي تنتظر الحكومة العتيدة أول ما تتشكل، وهي كلها، من متصلات مؤتمر سيدر إلى ملف اللاجئين السوريين تستدعي حداً أدنى من التجانس الحكومي، وهو ما بات يرتبط بتسهيل الأمور للخروج بصيغة الحكومة العديدة، وعرضها على المجلس النيابي، ويفترض “نظرياً” أن يتوزع المجلس حينها بين أكثرية مؤطرة في هذه الحكومة وبين من هم في المعارضة، ويفترض “بالحد الأدنى” أن لا يعود هناك “معارضون داخل الحكومة”، معارضون تارة وحاكمون تارة. لم نضيع فقط منطق الفصل بين السلطات، جرى أيضاً اضاعة مفهوم السلطة، وبالذات في معناها الإجرائي، وخلط الحابل بالنابل بين مفهوم الموالاة ومفهوم المعارضة.

 

اللحظة الراهنة تشهد محاولة تجسير الهوة بين هذين الاعتبارين آنفي الذكر. كل شيء يتوقف على شكل التجسير. لا يمكن ايفاء الاعتبار الدستوري، استعادة الديموقراطية البرلمانية على أكمل وجه، كل حقه الآن، لكن التحدي يتقوم في ضمان عدم القطيعة مع هذا الأساس، وعدم تثبيت منطق لادستوري موازٍ. لحظة اختمار التأليف هي لحظة ايجاد توفيق بين اعتبارين متناقضين، الأول دستوري، نجمّل تصدّعاته باسم “الميثاقية”، واعتبار عمليّ، محكوم بمنطق تقليل الأضرار، وهو ما لا يكون من دون تداعيات سلبية أيضاً، مثل تنمية النزعات التبريرية والتأجيلية.