IMLebanon

قصر العدل إن حكى… وإن حكم  

 

كثير الكلام الذي يمكن أن يقوله قصر العدل إذا فتحت له أبواب الكلام. كلام فيه تعبير عن تقدير تجربة رائدة كبيرة متوجة بمسار التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت وعصامية المحقق العدلي القاضي طارق البيطار ووقفة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود في وجه التدخلات وعرقلة سير العدالة. كلام فيه الكثير من الكبرياء والكثير من الوجع والألم والمعاناة في مواجهة مفتوحة مع الكثير من مواقع القوى داخل السلطة وحتى داخل القضاء نفسه وداخل قصر العدل والقصور الأخرى التابعة له.

 

يبدأ كلام الوجع في قصر العدل من المداخل المؤدية إليه. ومن ساحاته والمساحات التي يشغلها ومن الإهمال في المبنى والقاعات والسقوف المتداعية والكهرباء المقطوعة والعتمة والدرج ومواقف السيارات والوضع الأمني. قصر العدل يبحث عمن يمكنه أن ينظفه. يحتاج إلى حملة تنظيف من الأوساخ والغبار ومن الفساد والتبعية بحثاً عن استقلالية لا يمكن أن تولد إلا في أفكار وعقول القضاة مهما تم استحداث قوانين بحثاً عن هذه الإستقلالية.

 

عندما بني ذلك القصر بين أواخر الخمسينات وبدايات الستينات كان تعبيراً عن دولة بناء المؤسسات بين عهدي كميل شمعون وفؤاد شهاب حيث كانت صورة الدولة القوية والجمهورية التي هي على قياس وطن. كان ذلك أحد مشاريع لبنان الزمن الجميل الذي يتهاوى اليوم في ظل هذا الحلف الرئاسي بين عهد الرئيس ميشال عون وجماعة «حزب الله». تهاوٍ لا يقتصر على الحجر بل يراد له أن يشمل البشر ممن يؤلفون جسم هذا القصر وذاك القضاء.

 

بحثا عن دعم

 

من أجل تجاوز الأزمة التي يمر بها قصر العدل ذهب وزير العدل القاضي هنري خوري ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود في 23 كانون الأول الماضي إلى العراق بحثاً عن دعم تلبية لدعوة مجلس القضاء الأعلى العراقي إلى إفتتاح «إحتفالية يوم القضاء العراقي» التي تنطلق من العاصمة بغداد. ولم تقتصر الزيارة على بغداد بل شملت أربيل. فهل يمكن أن يأتي الترياق من العراق وهل بات من قدر القضاء اللبناني الذي كان المثل في العالم العربي يوم لم يكن هناك قضاء في الكثير من دول العالم أن يمدّ اليد لكي لا يصرخ من الألم؟ قبل ذلك تم التوجه إلى مجلس وزراء العدل العرب. في 6 كانون الأول الماضي، نقل وزير العدل الى هذا مجلس ورقةً صادرة عن صندوق تعاضد القضاة وتمّ تبنّيها بالإجماع من أجل تأمين مساعدات طارئة للقضاء في لبنان. قصر العدل يبحث عن تمويل في دولة مفلسة كي يبقى واقفاً تماماً كما يفعل الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية الأخرى.

 

عندما تم إقرار تعديلات سلسلة الرتب والرواتب الخاصة بالقضاة قبل أعوام تم اعتبارها أنها خطوة رائدة في سبيل تأمين حسن سير العدالة واستقلالية القضاة المالية ومنعاً لتفشي الرشوة وتوصلاً إلى أحكام عادلة لا تخضع للمساومات المادية. كانت تلك السلسلة إحدى الحجج التي انطلقت من بعدها مسألة المطالبة بسلسلة رتب ورواتب شاملة كانت أحد الأسباب التي أدت إلى هذا الإنهيار الكبير.

 

بين وزير العدل القاضي هنري خوري ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود صداقة وزمالة وهموم مشتركة كثيرة كانت قبل أن يصير الخوري وزيراً واستمرت بعدها. لا فواصل ولا مسافات كبيرة بين مقرّ وزير العدل ومكاتب مجلس القضاء الأعلى وهي مسافة لا تعكس أبداً تلك التي يجب أن تكون فاصلة بين قصر العدل والسلطة السياسية التي تحاول دائما أن تكون يدها «طايلة» في قصر العدل. مقر وزارة العدل يقع داخل بقعة قصر العدل ولكن في مبنى مستقل وله مدخل خاص. من طبيعة الأمور والعلاقات بين الوزارة والقضاء أن يكون لكل منها مدخل خاص واستقلالية في القرار. شكل الوزارة ووضعها العمراني والوظيفي لا يختلف كثيراً عن وضع قصر العدل.

الحكومة والقضاء والتهديد

 

ليس وزير العدل الحالي القاضي الوحيد في الحكومة. هناك وزير الداخلية القاضي بسام المولوي ووزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى. ولكن عندما اندلعت حرب قبع القاضي طارق البيطار وقف القاضي المرتضى في مجلس الوزراء في جلسة 12 تشرين الأول الماضي يلاقي الدعوة إلى تطييره مهدداً كل من يجرؤ على تنفيذ مذكرات التوقيف التي أصدرها بحق النائب علي حسن خليل. بعد ثلاثة أيام فقط كان وزير العدل يعلن أن «القاضي طارق البيطار سيد ملف المرفأ ويحق له استدعاء من يريد» في كلمة له أمام حشد من مجموعة «نون» النسائية في بيروت التي نظمت تحركاً أمام منزله في منطقة الحازمية، مضيفاً ان «القانون هو الذي يحكم كل المواقف وأنا متمسك بالقانون وسأبقى متمسكاً به».

 

كان مطلوباً من الوزير أن يكون شريكاً في عملية قبع القاضي البيطار على أساس أن تعيين المحقق العدلي يتم باقتراح من وزير العدل ويوافق عليه مجلس القضاء الأعلى. لم تكن تلك الطريق سالكة أمام عملية تغيير من هذا النوع لأنها تحتاج أيضا إلى موقف في مجلس الوزراء لا يفصل بين القضاء وبين السياسة. صحيح أن المحاولة فشلت لأن الرئيس نجيب ميقاتي لم يكن متجاوباً بهذا الشكل المعلن والمكشوف ولا كان قادراً على تحميل الحكومة مسؤولية هذا القرار الذي يجعل القضاء خاضعاً للسلطة السياسية ولكن هذا الأمر لم يمنعه من التحدث عن دور المحقق العدلي وحصانته وعن استنسابيته مع المطالبة بفصل الملفات وإحالة النواب والوزراء إلى المجلس الأعلى لمحاكمتهم. وبحثاً عن مخرج للمأزق الذي تم زجّ مجلس الوزراء فيه حاول ميقاتي أن يفتح ممراً عبر وزير العدل وعبر رئيس مجلس القضاء الأعلى من خلال اتصالات مباشرة أو بالواسطة ولكن تلك المحاولات فشلت. طال الإنتظار، صحيح. ولكن في النهاية صمد قصر العدل أمام الهجمات التي شُنّت عليه وبقي القاضي طارق البيطار في موقعه وعادت الحكومة لتجتمع من دون تنفيذ قرار «حزب الله» الذي صدر عن أمينه العام السيد حسن نصرالله. ولكن على رغم ذلك هناك قصور في العملية القضائية. على مستوى قصر العدل وعلى مستوى قضية التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت.

 

التحقيق العدلي وجريمة المرفأ

 

القاضي طارق البيطار واحد من هؤلاء القضاة الذين لم تعد رواتبهم تساوي قيمة عملهم والخطر الذي يتهدّدهم وبحثهم عن الإستقلالية والعيش بكرامة. صحيح أن مخصصاتهم ورواتبهم والتقديمات التي يمكن أن يحصلوا عليها وضعتهم في مقدمة موظفي الإدارة العامة قبل أعوام قليلة ولكن الإنهيار دمّر هذه الأفضلية لتضيق الفوارق كثيراً وليبدأ القضاة أيضا البحث عن مصدر رزق. من أجل هذا الهدف يقوم الوزير مع الرئيس عبود بمساعٍ لتحسين الوضع والحصول على مساعدات تؤمن الإستمرار في العمل بكرامة.

 

وفي ظل هذا الوضع المنهار يستمر القاضي طارق البيطار في موقعه وإن كان مسار عمله معرقلاً منذ نحو شهرين. ثمة طريقان للعرقلة وللتعطيل. هناك دعوى رد ضد القاضي البيطار وضد القاضي ناجي عيد المكلف النظر بدعوى الرد وهناك قاض جديد سيبت بدعوى رد عيد قبل العودة إلى القرار بالبت بدعوى رد البيطار. هذه الدعوى تجمد التحقيق بالكامل في الملف. وهناك دعوى ثانية قدمها وكلاء الوزير السابق يوسف فنيانوس لمخاصمة الدولة نتيجة الأعمال التي قام بها القاضي طارق البيطار وهذه الدعوى يحتاج البت بها إلى قرار هيئة محكمة التمييز العليا التي باتت ناقصة مع إحالة القاضي روكز رزق إلى التقاعد. تعيين بديل عن القاضي رزق يخضع لقرار السلطة السياسية. هذا الأمر يجعل هذا التعيين عملية اقتصاص سياسي من القضاء لمنع البت بدعوى المخاصمة وبالتالي تأخير مسار التحقيق. ولكن الفارق بين الدعوى هذه وتلك أن دعوى المخاصمة توقف التحقيق في الجزء المتعلق بمقدم الدعوى فقط أي بالوزير السابق يوسف فنيانوس الصادرة في حقه مذكرة توقيف بسبب امتناعه عن المثول كمدعى عليه أمام القاضي البيطار مع أن مثوله قد يؤدي إلى إعادة النظر بهذه المذكرة وربما العودة عنها.

 

ولكن في ما خص دعوى الرد الأولى والمتحورة عنها يمكن أن يتم البت بهما وبالتالي يمكن أن يعود القاضي البيطار إلى استكمال التحقيق. ولكن ماذا لو تم تقديم طلبات رد ودعاوى مخاصمة جديدة؟

 

في قصر العدل ألم ناتج عن محاولة المتضررين المدعى عليهم عرقلة سير العدالة واستعمال حق الدفاع المعطى لهم تعسفياً من أجل العرقلة. صحيح أن القضاء لا يمكن أن يمنع هذا الحق بسبب القوانين المعمول بها ولكن هناك دور يجب أن تلعبه نقابة المحامين تجاه المحامين الذين يتعسفون باستعمال هذا الحق واتخاذ تدابير نقابية قانونية في حقهم. وبإمكان أهالي الضحايا الداخلين في الدعوى أن يدّعوا على الذين يحاولون عرقلة سير العدالة وهذا حق لهم. فمبنى نقابة المحامين يقع أيضا داخل حرم قصر العدل والنقابة طرف في الدعوى ولا يجوز أن يبقى صوتها غائباً عن عرقلة سير العدالة وعليها أن تقف إلى جانب أهالي الضحايا في هذه القضية طالما تحمل وكالات للدفاع عنهم.

 

قصر العدل إن حكى يحكي أيضا عن ألم من محاولة بعض القضاة عدم الإستفادة من قوة الحضور والدور التي أرستها طريقة التصدي لعملية قبع القاضي طارق البيطار. يعز على قصر العدل وفي مثل هذه المواجهة أن يكون هناك قضاة لا يرفضون محاولات السلطة السياسية قبع القاضي البيطار ومعه رئيس مجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات وغيرهم. يعز على قصر العدل أن يكون هناك قضاة مستعدين للوصول إلى مواقع أعلى على جثة القضاء بدل أن يكونوا من ضمن الجسم القضائي الحريص على أن يبقى القضاء سيد نفسه. هذا الوجع ظهر عند الحديث عن الصفقة التي كان يراد لها أن تتم بين رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وبين الثنائي الشيعي ورئيس الحكومة. ولكن حجم هذه الصفقة وتعدد مراحلها والمشاركين فيها لكي يتأمن نجاحها هو الذي أفشلها في النتيجة مع انسحاب الرئيس ميقاتي منها. فهل كان من الممكن أن يكون هناك «قاض كبير» يقبل بتطيير القاضي البيطار بهذه الطريقة وقبع مجلس القضاء الأعلى بهذه الطريقة أيضا؟ كيف لمثل من يقبل بأداء هذا الدور أن يكون مؤتمنا على العدالة وعلى استقلالية القضاء ودماء قضاة قضوا على قوس المحاكم أو أفنوا عمرهم في سبيل الحق وفي تحقيق رغبة الشعب بأن تكون الأحكام فعلا باسم الشعب اللبناني.