IMLebanon

الرئيس عندما يستقيل أو يستقتل

 

 

لم ينجُ أي عهد من عهود رئاسة الجمهورية منذ الإستقلال من تجارب الإستقالة أو فرض الإقالة. ثمة رؤساء استقالوا وإن كان من باب المناورة أحياناً. إلا أن البعض استقتل في الدفاع عن ولايته حتى اللحظة الأخيرة. منذ بدأت ثورة 17 تشرين طرحت من خارج العناوين الأساسية استقالة رئيس الجمهورية ميشال عون من دون أن تتحول إلى قضية. حتى عندما تسرب أن الرئيس قال أنه يفضل الإستقالة على أن يصاب عهده بالشلل تم نفي هذا الأمر.

 

 

يبقى رئيس الجمهورية بوابة الحل من خلال صلاحياته الدستورية ولكنه أيضاً يمكن أن يكون العقدة بسبب المماطلة في تأجيل الإستشارات النيابية الملزمة، والعمل على الإنقلاب على مطلب تشكيل حكومة مستقلة حيادية والعودة إلى مربع تقاسم الحصص والوزارات

 

ويُعتبر الرئيس بشارة الخوري الوحيد الذي استقال وكانت استقالته تامة وناجزة، ولكن هذه الإستقالة كانت بعد ثلاثة أعوام أمضاها في الرئاسة من الولاية الممددة كان من الأفضل له لو لم يفعلها وقتها ويقبل بها، حتى لو كان المحيطون به هم الذين أرادوها أيضاً. لم يستطع رئيس الإستقلال أن يقاوم الرغبة بالتمديد ولكنه أيضاً لم يستطع أن يقاوم الطلب بالإستقالة. لقد نظم انتخابات 1947 التي أتت بأغلبية مؤيدة له جدّدت ولايته ونظم انتخابات 1951 التي أتت أيضاً بأغلبية مؤيدة له لم تستطع أن تمنعه من الإستقالة ومن أن تنتخب رمز المعارضة كميل شمعون. بعد مهرجان المعارضة الشعبي في دير القمر نظّمت التظاهرات المطالبة باستقالة الرئيس، خصوصاً في ساحة الشهداء في المكان نفسه الذي تظاهر فيه الناس، مطالبين بخروجه من الإعتقال في قلعة راشيا في تشرين الثاني 1943.

 

في الإجتماع الذي عقده في منزله في عاليه وضم الأغلبية النيابية المؤيدة له أبلغهم “لقد رأيت أن أستقيل تأميناً للمصلحة العامة”. رفض الرئيس بشارة الخوري أن يزج الجيش في حماية ما تبقى من عهده، مفضلاً عدم إراقة أي نقطة دم خصوصاً أن قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب لم يكن مع إقحام الجيش في الدفاع عن العهد. وهذا الأمر لم يمنع الرئيس الخوري من أن يكلف شهاب رئاسة الحكومة الإنتقالية في 19 أيلول 1952. خلال ثلاثة ايام تمّ انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية وعاد شهاب إلى قيادة الجيش بينما غادر الرئيس السابق إلى منزله ليتفرغ لكتابة مذكراته.

 

تجربة شمعون

 

على عكس الخوري لم يقبل شمعون الإستقالة. نظّم انتخابات نيابية أمنت له الأكثرية في العام 1957 وأبعدت عدداً من معارضيه، ولكن هذه النتيجة لم تمنع حصول ثورة مسلحة ضده بدأت في 8 أيار العام 1958 بعد اغتيال الصحافي نسيب المتني بدعم من المخابرات السورية بقيادة عبد الحميد السراج، بعد شهرين ونصف على إعلان الوحدة المصرية السورية برئاسة جمال عبد الناصر. اتهمت المعارضة شمعون بأنه يريد التمديد لنفسه في الرئاسة ولكنه ردّ بأنه يقف ضد محاولة ضم لبنان إلى نظام الوحدة الجديد، ورفض طلبات استقالته وبقي في القصر الجمهوري في القنطاري حتى اليوم الأخير من ولايته في 22 أيلول ليسلم الرئاسة إلى اللواء فؤاد شهاب بعد انتخابه نتيجة تفاهم مصري أميركي.

إستقالة شهاب

 

حاول شهاب أن يحكم بالتوازن بين الشارعين اللبنانيين على قاعدة التنسيق مع عبد الناصر في القضايا الخارجية وأخذ بعض الإستقلالية في القرار الداخلي. أهم ما فعله شهاب كان محاولة محو آثار الثورة وتنظيم الحياة السياسية من خلال قانون الإنتخابات الذي عرف لاحقاً بقانون الستين، وعلى أساسه تمّ تنظيم أول انتخابات في عهده في حزيران من ذلك العام. في 20 تموز فاجأ شهاب اللبنانيين والمحيطين به عندما أذاعت الاذاعة اللبنانية خبر استقالته وتأليف حكومة انتقالية، ودعوة المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد.  بعد ان ودع الرئيس شهاب اعضاء حكومته إثر ابلاغهم الاستقالة المقدمة الى مجلس النواب، وتسليمهم مراسيم قبول استقالة حكومة عمر الداعوق وتعيين الحكومة العسكرية الانتقالية، غادر المقر الجمهوري في صربا ليعتكف في منزله الصغير في جونيه. ولكن نزولاً عند رغبة مؤيديه ومعارضيه والحشود التي أحاطت بمنزله تراجع عن هذا القرار ليكمل ولايته حتى 22 أيلول من العام 4691، رافضاً أيضاً عروض التمديد التي قدمت له معتبراً أنه لا يمكنه أن يحقق النتائج الإصلاحية التي ينتظرها منه الشعب.

 

شارل حلو أيضاً

 

في 19 تشرين الأول 1968 إستقال الرئيس شارل حلو بعدما كانت جرت الإنتخابات النيابية التي أحرز فيها الحلف الثلاثي نتائج متقدمة في مواجهة لوائح النهج الشهابي، وفي مرحلة كان يترسخ فيها الإنقسام الداخلي حول العمل الفلسطيني المسلح، ويزداد فيها ضغط ضباط الشعبة الثانية على العهد. ولكن الرئيس عاد عن استقالته ليكمل عهده بأقل قدر من الخسائر مؤجلاً الإنفجار الكبير.

 

فرنجية يرفض

 

الرئيس سليمان فرنجية لم يكن خارج هذا السياق. بعدما اندلعت الحرب في 13 نيسان 1975 وبعد انقسام الجيش وانقلاب العميد عزيز الأحدب في 11 آذار 1976 وبعدما كانت أكثرية النواب وقعت عريضة تطالبه بالإستقالة لتكون منطلقاً للبحث عن حل للأزمة رفض الطلب ولم يقبل. يروي البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في مذكراته أنه التقى في 14 آذار 1976 في قصر بعبدا الرئيس فرنجية، موفداً من البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش للبحث في هذا الموضوع وأن الرئيس قال له: “دعني أسرد لك ما قلته بالأمس للنواب الذين طلبوا مني أن أستقيل لكي تنقله إلى غبطته ليكون على اطلاع على ما جرى. قلت لهم إن الدستور لا يخولكم إقالتي. إنه يخولكم محاكمتي، فيمكنكم أن تحاكموني إذا كنت أجرمت بحق البلاد… هل إذا استقلت ستصطلح الأمور؟… إستقالتي ستكون قفزة في المجهول ولن أقدم على القفز في المجهول، وسأبقى في موقعي حتى آخر ساعة وبعدها فليكن ما يكون. وهذا موقفي ولن أتزحزح عنه… من يضمن لنا أن رشيد كرامي لن يرشح نفسه للرئاسة ويجد من النواب من يصوتون له فنكون قد فقدنا آخر ضمانة لنا؟ ترى هل الموارنة يرضون أن يعيشوا مثل الأرثوذكس في سوريا أو أي بلد عربي؟”… وبعد أسئلة استيضاحية من المطران صفير قال فرنجية له: “… قال بعضهم قبل الأحداث إن المسيحيين لن يثبتوا أمام الهجوم إلا بضعة أيام وقد ثبتوا حتى النهاية، ولم يتقدم المهاجمون ولو متراً واحداً هنا في بيروت ولا في زغرتا وكانت نسبة الضحايا واحداً على عشرة لصالحنا. وهذا آخر حظ لنا، فإن كبونا خسرنا المعركة إلى الأبد فنكون قد أضعنا ما قضينا مئات السنين في اكتسابه والمحافظة عليه”…

 

سركيس يستقيل

 

طبعا لم يتزحزح الرئيس فرنجية عن موقفه ولكن الحل كان بتعديل الدستور بحيث يصبح بالإمكان انتخاب رئيس للجمهورية قبل ستة أشهر من انتهاء الولاية الرئاسية، وعلى هذا الأساس تم انتخاب الياس سركيس في 8 أيار 1976 لينتقل في 23 أيلول 1976 إلى قصر بعبدا المدمر والحزين، وليبدأ رئاسته على ضوء شمعة في نفق الرئاسة الطويل. ولكن قدره أيضاً لم يكن مختلفاً عن غيره. عندما اندلعت حرب المئة يوم في العام 1978 بين القوات اللبنانية والجيش السوري اتهمت الجبهة اللبنانية سركيس بأنه يغطي القصف السوري ولا يفعل شيئا لإنقاذ المسيحيين، بينما اتهمه النظام السوري بأنه يغطي الجبهة اللبنانية والقوات اللبنانية. أمام هول ما يحصل من دمار وخراب ونتيجة العجز عن وقف المجزرة، أوحى الرئيس سركيس صباح السادس من تموز أنه مستقيل من منصبه. ألغى مواعيده ولزم جناحه في القصر. اعتبر أن توحيد لبنان كما يريده وكما تصوره فؤاد شهاب، وأن الحل يمكن أن يكون بالإتجاه نحو لامركزية موسعة تحافظ على تركيبة الدولة الواحدة التي تنظم بداخلها وحدات طائفية لكل منها استقلالها الذاتي… خمسة ايام أمضاها سركيس مصراً على الإستقالة. ليل 8 تموز كتب نص بيان الإستقالة بخط يده لكنه لم ينشره. كان قرر أن يكلف مارونياً رئاسة حكومة انتقالية لتأمين انتخاب رئيس جديد، ولكنه واجه مسألة رفض رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص الإستقالة. لم يكن هناك بديل عن الياس سركيس إلا الياس سركيس. الرئيس السوري حافظ الأسد أبلغ الوزير فؤاد بطرس أن الإستقالة مجازفة محفوفة بالمخاطر. أما السفير الأميركي فقد قصده إلى قصر بعبدا ليقول له:” مطلوب منك شيء واحد. أن تبقى في منصبك… وجودك ضمانة للجميع وذهابك يعني دخول لبنان في المجهول…”. في 15 تموز عاد الرئيس سركيس عن استقالته في كلمة موجهة إلى اللبنانيين ولكن الحرب استمرت.

من الجميل إلى لحود

 

مع الرئيس أمين الجميل لم تطرح الإستقالة ولكن العهد خضع تحت الضغط العسكري والسياسي إلى تقديم سلسلة تنازلات. في الليلة الأخيرة من عهده سلم السلطة إلى حكومة العماد عون العسكرية. رفض عون ترك القصر الجمهوري إلا بعد عملية 13 تشرين 1990. كان الرئيس رينيه معوض قضى شهيداً في 22 تشرين الثاني 1989 ليحل محله الرئيس الياس الهراوي الذي مددت ولايته بدل مطالبته بالإستقالة. الرئيس أميل لحود كانت تجربته مختلفة. مدّدت ولايته في العام 2004 بعد القرار 1559 ولكنه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وثورة 14 آذار بقي متمسكاً بمنصبه ولو لم يعد له أي قدرة على التحكم والحكم. رفض البطريرك صفير تبني طلب استقالته ولكن هذا الأمر لم يمنعه من لقائه في بعبدا ليطلب منه مباشرة أن يستقيل ولكنه لم يفعل. بقي حتى 24 تشرين الثاني 2007 وسلم القصر إلى الفراغ. الرئيس ميشال سليمان لم يخضع لهذه التجربة.

 

اليوم بعد ثورة 17 تشرين يواجه عهد الرئيس عون تجربة صعبة. صحيح أن هناك مطالبات بتغيير النظام على قاعدة أن الشعب يريد ذلك ولكن هذا المطلب ليس جازماً ولا شاملاً لأن المطالبة بالتغيير تكاد تنحصر بتشكيل حكومة تغيير حقيقية تنقذ لبنان من الفشل والإنهيار، وهذا الحل يحتاج إلى المرور عبر بوابة الرئاسة، ولكن المشكلة أن الرئاسة لا تذهب في هذا الإتجاه بل في الإتجاه المعاكس.

 

قبل انتخابه كان العماد عون يؤكد على أنه يريد الجمهورية لا رئاسة الجمهورية. بعد انتخابه تكاد الجمهورية تضيع بينما يتركز الجهد على المحافظة على الرئاسة. الأمر يكاد يكون استقتالاً في سبيل البقاء في القصر اعتقاداً بأنه لا يزال قادراً على إنقاذ الجمهورية. ولكن أمام هذا الإعتقاد قد تكون هناك استحالة.