IMLebanon

موعظة البطريرك على الجبل

 

اليوم، يشهد الجبل «حملةً» بطريركية رابعة بعد التهجير، استهلَّها البطريرك نصرالله صفير، وحملَ بعده البطريرك بشارة الراعي صليبَهُ ومشى للمرة الثالثة.

موعظة البطريرك الراعي على جبل الباروك، هي تلك التي تستوحي موعظة جبل الزيتون «طوبى للحزانى، طوبي للجياع، «طوبى لفاعلي السلام» «… لا تردّوا الشرّ بالشرّ والشتيمة بالشتيمة بل باركوا»… «أحبِبْ قريبك كنفسك».

لست أدري، ما إذا كان هناك مَنْ يعتبون على البطريرك الياس الحويك صاحب الفضل في ضمّ الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان ليصبح لبنان الكبير، ولست أدري أيضاً ما إذا كان هناك من يعتبون على البطريرك أنطوان عريضة الذي حضَـنَ الإستقلال ورعاهُ عبـر مؤتمر وطني في بكركي، فيما الإستقلال لم يحافظ عليه الرجال.

هذه بعض التصوُّرات العشوائية، نتيجة ما آلـت إليه حال لبنان اليوم، حتى لم نعـد نعرف ماذا نسمّيه: دولةً أو مزرعةً، أو مغارةً للصوص.

في العودة إلى الجبل، تبدو العلاقة بين المسيحيين والدروز الأنموذج التاريخي للواقع اللبناني: يختلفون ويتَّفقـون، يتقاتلون ويتصالحون، يتهاجرون ويتساكنون، إنها معجزة العيش المشترك في لبنان: بلـدٌ يُـراقُ فيه الـدم، وبالـدم يُبنى.

قبل سنة 1840 كان الجبل مثالاً للمارسات الحزبية، فكان الماروني والدرزي والسنّي في صـف واحد، مقابل الدرزي والماروني والسني في الجهـة المقابلة، ومثلما كان الحزب القيسي يضـمّ المعنيّين والشهابيين وآل الخازن… كان الحزب اليمني يضـمّ الأرسلانيين وآل علم الدين ومعهم آل حبيش.

 

وبهذا، استطاع الجبل أن يتخطّى التوازنات الدولية ويتحدّى الباب العالي ورغبة ابراهيم باشا، وخورشيد باشا، وأحمد باشا في شطر الجسم إلى نصفين، وفصل فئـة عن فئـة وطائفة عن طائفة وفْـقَ شعار «فـرِّقْ تسُـدْ».

وعندما أثار تطبيق القائمقاميَّتين مشكلة القرى المختلطة المسيحية – الدرزية، وكان اقتراح خبيث بهجرة متبادلة من قائمقامية إلى أخرى وفقاً للقاعدة الطائفية، رفض السكان من الطرفين هذا الفرز الطائفي.. وظلت قـرى الجبل متمرّدة على الإنفصال، كأنما مكتوبٌ لها بعْـدَ كلِّ قتال أنْ يظلّ البيتُ إلى جانب البيت، والجدار ملتصقاً بالجدار، والجار يستعين بالجار.

هذا التمازج بين السلبي والإيجابي في مسيرة العيش المشترك، إنبثقَتْ معانيه من مآثر رجالات الجبل التاريخيّين.

الأمير بشير الثاني، على ما يقول فيليب حتي في تاريخ لبنان: «كان الأمير مسيحياً بالمعمودية، مسلماً بزواجه، درزيّاً لدى أعوانه.

والأميران فخر الدين الأول والثاني: «وُلِـدا درزيَّين وعاشا مسيحيَّين، وماتا مسلميَن» على ما يقول كمال جنبلاط في كتابه من أجل لبنان (1).

كمال جنبلاط أدرك هذه الحقيقة وهو كان: «أبـرز الذين تعمّقوا بالفكر المسيحي، «والقديس تـومـا الأكويني كان من المؤثِّرات الأساسية في فكره وتكوينه..(2)

وعندما وصلت المعارك في الجبل إلى درجة عنيفة وقيل: «إنّ قصـر المختارة سوف يهدم بالطائرات، قال كمال جنبلاط: «عندنا بعض الأوراق الشخصية المهـمّ أن نؤمِّـن مكاناً أميناً لها عند واحد من إخواننا المسيحيين»(3).

 

وبهذا كان كمال جنبلاط يتمتّع بتأييد مسيحي – ماروني في الجبل تفوَّق بـه أحياناً على كميل شمعون.

نذكر هذه الحقائق التاريخية، في زمـن الإنحطاط اللبناني والإنحراف السياسي والإنهيار الكارثي، وازدواجية الولاء الوطني، لعـلّ الصغار يتشبّهون بالكبار حتى، وإنْ لم يكونوا مثلهم.

1- كمال جنبلاط: كتاب من أجل لبنان ص: 110.

2- كتاب كمال جنبلاط والتحدي الكبير ص: 87.

3- كمال جنبلاط والتحدّي الكبير ص: 185.