IMLebanon

المراوحة تحكم الانتفاضة… لتنقية الذات ومصالحة مع الجمهور الحزبي

 

لا يختلف اثنان على أنّ وجود حركة شعبية اعتراضية خائفة، ملبّكة، وغير منظمة، يجعل الأمل المَرجو في إنتاج سلطة سياسية جديدة أمراً مستبعداً. من هنا، فإنّ الواقعية تفترض الإشارة إلى عوامل ضعف الحركة الاعتراضية التي نشأت في 17 تشرين الأول 2019، حيث بات نمط المراوحة يتحكم بمسارها على مستويين: مستوى تطوّر الحركة على الأرض، ومستوى إحداث خرق في المطالب السياسية وفي المشهد السياسي.

لم تختلف التحركات الشعبية التي حصلت على طريق القصر الجمهوري عن سابقاتها في التنظيم والعدد والفعالية إلّا من ناحية رمزية المكان، وندرة التظاهر فيه، في مقابل ردّات الفعل القاسية التي حصلت على يد بعض جنود الجيش الذي أوضحت قيادته في بيان أسبابها.

 

ما حصل ويحصل هو تكريس المراوحة سلوكاً في تحركات الانتفاضة منذ فترة طويلة، وهذا النمط يحمّل القيّمين على تلك الانتفاضة مسؤولية كبيرة امام التاريخ والناس، بسبب عدم تحقيق استراتيجية ثابتة وخريطة طريق واضحة لتحقيق هدف انتفاضة اللبنانيين. فهل يجوز الاستمرار في هذا السلوك؟

 

تقول الباحثة والناشطة السياسية الدكتورة منى فيّاض لـ”الجمهورية” إنّ “خطة الحكام في السلطة باتت واضحة، كلّما كان هناك تحرك شعبي، تعمل السلطة على إحباطه عبر دَسّ مجموعات لها في الساحات تُحدِث فوضى منظّمة، تنتهي بتفريق المتظاهرين وفشل التحرّك”. وتشدّد على أنّ “المشكلة هي غياب الاتفاق على هدف واحد يجمع المنتفضين. وطالما لم يتفقوا على أننا بلد محتل، وعلى أنه لا يمكن المطالبة بحقوق وبمطالب معيشية في ظل بلد محتل، لا يمكن تحقيق الغاية من التحركات. الناس خائفة من تناول موضوع “حزب الله”، لذلك الحل يبدأ بوضع الأصبع على الجرح، وذلك يكون بالمجاهرة ورفع عنوان السيادة والتوحّد تحت شعار “إيران بَرّا” أُسوة بما حصل في العراق، والقول انّ “حزب الله” يحكم لبنان بالقوة ويتصرّف بناء على توصيات دولة أجنبية تستخدمنا لتحقيق مصالحها الايديولوجية والسياسية والتوسّعية على حساب مصلحة لبنان”.

 

وترى فياض “أنّ هناك إجماعاً على أنّ الجيش هو الملاذ الأخير للبنانيين، لكن في الوقت نفسه هذا الجيش “مَخروق”، ويضم أجهزة لا تطيع القيادة، والدليل ما حصل أخيراً على طريق القصر، وبالتالي، هذا يتطلب موقفاً حازماً:

ـ أولاً، على قيادة الجيش اتخاذ تدابير في حق المخالفين لأوامرها.

ـ ثانياً، على الناس أن يتشجّعوا ويعلنوا اننا بلد محتل، وهذا الاحتلال هو الذي يعطّل تطبيق الدستور ويسمح بالتجاوزات للقوانين ويطلق يده في حكم البلد ويسمح للسياسيين “الكومبارس” بتحقيق مصالحهم الشخصية الضيقة”.

 

وتدعو فياض “الطرف المسيحي، وخصوصاً بكركي” إلى “سحب الغطاء عن رئيس الجمهورية الذي يغطي “حزب الله”، من دون التحجّج بشعارات واهية، كموقع الرئاسة والصلاحيات وغيره، فموقع الرئاسة لن يُمسّ، فها هو سعد الحريري استقال وجِيء بسُنّي آخر مكانه، من دون المسّ بموقع رئاسة مجلس الوزراء”.

 

الخبير القانوني والناشط في انتفاضة 17 تشرين أنطوان سعد يعتبر “أنّ من هم في السلطة سيستمرون في اعتماد سياسة المراوغة كي تبقى الظروف مؤاتية لمصلحتهم”. وقال لـ”الجمهورية”: “إنّ استخدام الثوار للعنف، سيعمّم النموذج العراقي ويدفع أجهزة الدولة إلى إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. لذلك، إنّ هذه الانتفاضة لن تنجح إلّا بوجود خطة محكمة تستهدف أركان السلطة في منازلهم، او التحرك مع المغتربين للوصول إلى قرار دولي لإنتاج سلطة سياسية جديدة في لبنان عبر تأمين العملية الانتخابية بإشراف أممي، والسماح بالتصويت الالكتروني للمغترب اللبناني، ووضع قانون انتخابي جديد”.

 

وأسِف سعد “لتحوّل الانتفاضة مجموعات منتفضة، كل يحمل العنوان الذي يتوافق ورؤيته السياسية”، مؤكداً “انّ لبنان لن يتغير إلّا برحيل كابوس “حزب الله”، لذا هو يؤيّد طرح عنوان السلاح و”حزب الله” كمعرقل لقيام الدولة اللبنانية”. واعتبر ان “لا مفرّ من التواصل والتنسيق بين الانتفاضة والأحزاب السيادية كـ”القوات اللبنانية” و”الكتائب”، إذا لم يستطع المنتفضون إحداث تغيير بوجه “حزب الله” من خلال السياسة الدولية”.

 

أسباب التراجع

ويقول مصدر حزبي ممّن شاركوا في انتفاضة 17 تشرين 2019 لـ”الجمهورية”: “إنّ الجمهور الحزبي المؤمن بالتغيير والمعارِض للممارسات القائمة والنمطية الموجودة، شارك في الانتفاضة منذ بداياتها إيماناً منه بأنها شكلت أملاً للبنانيين، لذلك شهدت اندفاعة قوية. أمّا تراجعها فيعود لأسباب عدة أبرزها:

ـ أولاً، تمسّك بعض الجماعات في المجتمع المدني بشعار “كلّن يعني كلّن” ظنّاً منها أنها قادرة على اختزال الحياة السياسية، وهذا خطأ، فالانتفاضة يجب أن تستوعب الجميع وتدعو الى التغيير المنشود لا أن تكون طرفاً إلغائياً للآخرين، فصندوقة الاقتراع وحدها تقرّر أحجام القوى السياسية على اختلافها.

ـ ثانياً، بعض المجموعات اعتقدت أنها كانت محرّك الناس التي تحرّكت في 17 تشرين، في حين أنّ عدد مَن لازموا منازلهم يفوق بكثير من نزلوا إلى الطرق، وهؤلاء أيضاً يؤمنون بأنه لا يمكن الاستمرار في هذا النمط من الحكم في ظلّ منظومة مزدوجة تتمثّل بتحالف “المافيا والسلاح”، ويجب أن يُصار الى إسقاط هذه المنظومة، عبر تضافر جهود كلّ الأطراف ومساعيها، من هنا لا أحد يملك حق الادعاء بأنّه يختصر جميع الناس.

ـ ثالثاً، دخول بعض القوى اليسارية الى الانتفاضة بشعارات لا تشبه لبنان، فأرادت تغيير وجه لبنان المالي والاقتصادي والسياسي، في حين أنها لا تريد المسّ بالمقاومة، علماً أنّ “بلاء” لبنان منذ الـ90 حتى اليوم ناتج عمّا يسمّى “مقاومة”.

– رابعاً، غياب مشروع سياسي واضح المعالم ضمن أهداف واضحة.

 

من هنا، يشدّد المصدر الحزبي على أنّ “الانتفاضة مدعوة الى إعادة التفكير في شعاراتها وصوغ استراتيجية جديدة لها، تقوم على تنقية نفسها من المجموعات التخريبية، ونسج تحالف مع الأحزاب الوازنة، التي أثبتت عبر تاريخها ومسيرتها التزامها الدستور ومحاربتها الفساد وحرصها على بناء الدولة، لأنّ وجود هذه الأحزاب ومنها “القوات اللبنانية”، أعطى اندفاعاً وزخماً للانتفاضة، والدليل أنه عندما خرجت “القوات” من الشارع، ضعفت الانتفاضة وظهر عدم قدرتها على التغيير ولا على التأثير. من هنا، الاستراتيجية تعتمد على إجراء مصالحة مع الناس ومع الجمهور الحزبي الوحيد القادر على تحقيق التغيير المنشود، فقلب الطاولة يحتاج إلى تحالف عريض يضمّ أوسع المكونات السياسية والرأي العام اللبناني الذي يريد التغيير إلى القوى الحزبية الحيّة. وخلاف ذلك، ستنجح قوى الأمر الواقع، المتمثّلة بـ”حزب الله” و”التيار الوطني الحر” وفريق السلطة، بضرب الدينامية الشعبية”