IMLebanon

الدوامة المُفرَغَة

 

دخلتُ عالم الدراسات التي يُعدّها القطاع العام والجمعيات المحلية والنقابات والهيئات الدولية في التسعينات، عندما قرَّرت أن أحاول خدمة بلدي من خلال عملي كرئيس لتجمّع صناعيّي المتن الشمالي، وبعدها كرئيس لجمعية الصناعيين اللبنانيين.

كنت قبلها أعرف عن الدراسات الأكاديمية في كتب الدراسة، وكم لفت نظري العدد الهائل من الدراسات، خصوصاً دراسات الماكرو التي تبشّرنا وتوجّهنا كيف من الممكن أن نسير باقتصادنا الى نموٍّ حقيقي وواقعي، وكيف علينا أن نُصلح ما لا يُصلح. ولفت نظري خصوصاً غياب إحصاءات علمية واضحة في لبنان، وأنّ غالبية المعلومات مُستقاة من هنا وهناك ومن مقابلات مع بعض المسؤولين وغير المسؤولين.

عندها، فهمتُ «خَصلة» اللبناني بإسماع الأجنبي، خصوصاً «أبو الدراسات» ما يُريد أن يسمعه، وفي غالبية الأحيان إذا كان من يُعطي رأيه موظفاً في القطاع العام فهو يُصوّر الواقع أنه بألف خير ويُرتب الاحصاءات على هذا الأساس. أما اذا كان من القطاع الخاص فيُريد أن يتكلم عن المأساة التي يُعانيها حسب قطاعه، لكنّ الفريقين غير قادرين على شرح الموضوع بالتفصيل وكما يجب.

خلال ترؤسي لجمعية الصناعيين، وفي حضور وزير «عليه القيمة والقدر»، قال لي كيف تصوّر الوضع أمام مسؤولين دوليين من البنك الدولي، وكأنه «مأسوي»، أنت تخلق جواً من السلبية، حتماً سيرفضون مساعدة لبنان. فقلتُ باستغراب: هل تريدني أن أكذب وأقول لهم غير الواقع؟! لم أحصل على جواب ومَرّت السنين.

ما زلتُ أنتظر، أما اليوم فالاصلاح الاقتصادي المنتظر والمرتقب مع عهد الاصلاح والتغيير والذي يعوّل عليه الجميع لحثّ النمو وتشجيع التصدير وتحفيز الاستثمار وتأمين الخدمات الصحية، وتنفيذ مبدأ شمولية الموازنة والتعليم والكهرباء وتطبيق قانون السير والتحول الى الرقابة الالكترونية ومحاربة الفساد، وتفعيل عمل الادارة وتحسين بيئة الاعمال… يجب ان ينطلق من دراسات ومعطيات واقعية تصوّر الواقع الاقتصادي بتفاصيله الدقيقة لأنّ الشيطان يكمن في التفاصيل.

كل هذه المواضيع المذكورة يجب أن توضع موقع التنفيذ في أسرع وقت ممكن لكي نعيد النمو، والكثير من خطوات الاصلاح ممكنة التنفيذ فوراً إذا وجد التوافق الداخلي حولها، أما اذا كان التوجّه بالقيام بدراسات معمّقة، فالمطلوب واحد والخلاصة واحدة: اذا لم يتمكّن لبنان من تحقيق زيادة النمو وتشجيع التصدير والعمل على تنمية الابداع وتسهيل تأسيس الشركات، والهم الأهمّ خلق فرَص إنتاج (عمل)، فنحن مقبلون على كارثة حقيقية.

إنّ أيّ دراسة جديدة عن الوضع الاقتصادي اللبناني يجب أن تأخذ في الاعتبار التفاصيل وإلّا تحوّلت الى هدر جديد للوقت والاموال والطاقات، والأهمّ ان نكون صريحين بتقويم واقعنا وأدائنا بكل شفافية. فيجب ألّا نخفي مثلاً أننا ما زلنا نستعمل الطابع الأميري على رغم أننا بدأنا بتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وكأنّنا في بلد من القرون الوسطى.

وأن نُحدّد الارقام بأنّ كلفة مرفأ بيروت وتصديق فواتير خارجية لوضع مستوعب 40 قدماً على ظهر الباخرة يكلّف 800 دولار، وكيف ندفع رسوم مرفأ للجنة بقيت 25 عاماً بحكم الموقتة، وكيف سندفع مبلغاً آخر على كل مستوعب نستورده مع الزيادات الجديدة، واذا كان الرسم مقابل خدمة كيف ندفع للجنة حسب نوع البضائع، وهذه كما يعلم الجميع ضرائب سيادية تذهب الى غير مكانها، الذي هو حصراً مالية الدولة.

وأن نُصوّر المعوقات المكلفة امام كلّ صناعي يريد ان يستورد قطعة غيار لأنّ المصنع متوقف عن العمل من خلال البريد السريع، فيدفع الجمرك والضريبة على القيمة المضافة إضافة الى أجور تخليص خمسة أضعاف الضرائب لشركة البريد السريع لتخليص الطرد!

وأنه إذا أراد أن يصلح لوحة إلكترونية وإرسالها الى خارج لبنان للتصليح، فمعاملة التصدير وإعادة الاستيراد تحتاج الى ثلاثة ايام قبل التصدير وكلفة تتعدّى المئات من الدولارات بتعقيد لا مثيل له، ممّا يضطرّه الى إرسالها واستعادة استيرادها على انها جديدة والكلفة ايضاً وايضاً مئات الدولارات.

وكيف يستورد الصناعي أو التاجر ويتكلّف لقاء مَساطر لبعض البضائع التي يودّ استيرادها عشرات الدولارات لمعاملة تخليص لمَساطر، وهي معاملة يجب ألّا تكلف بضعة سنتات. وتكاليف معقّب المعاملات «ترانزيتير»، وهي من دون شك الاغلى في العالم.

يجب ان نبرز أنّ كلفة الاتصالات في لبنان هي عشرة أضعاف ما هي عليه في اوروبا. ولماذا لا ننتج كهرباء كافية منذ ثلاثين عاماً وعدم قدرتنا حتى الآن على إنتاج كهرباء بأسعار معقولة؟ وكيف نسجّل عقاراً او مركبة آلية او الرخص المرتبطة بالمركبة الآلية؟ وكيف يتمّ حجز فان للتوزيع لأنّ اسم الشركة مكتوب على الفان بلا ترخيص؟

يجب ان يكون واضحاً كيف تتعامل المالية مع الشركات، وكيف يعتبر بلد أنّ كل رجل اعمال هو حتماً حرامي، وكيف نُطلق على مبنى مغشوش اسم مبنى تجاري، وكيف يتم تسجيل الشركات، وأكلاف المحامي والمحاسب وحتى إذا كانت الشركة نائمة، وكيف يفرض قانون مصاريف وخوات لا وجود لها في اي بلد متحضّر في العالم.

ولا نخفي أسباب ارتفاع اسعار بطاقات السفر مقارنة بالبلدان العدوة والصديقة، وسبب امتناعنا حتى اليوم من تطبيق سياسة الاجواء المفتوحة.
يجب أن نَعي بوضوح أنّ هناك استحالة للشباب من عائلات غير ميسورة ولا تمتلك إمكانية رهن عقار، أن يمارسوا أي نشاط رائد او شركات جديدة او يقوموا بتأسيس شركات لهذا الغرض.

وكيف أنّ المصرف المركزي، ومن خلال كفالات، فتح المجال لهؤلاء بأن يحصلوا على تسهيلات مصرفية، وكيف أنّ أكثر من 90 في المئة من هؤلاء الشباب اضطرّ لرهن ما يمتلك او لكفالة احدهم للحصول على seed money، أي رأسمال صغير ليتمكنوا من الانطلاق بأفكارهم الرائدة لأنّ المصارف لا تكتفي بكفالات.

يجب ان ندرج أننا معزولون عن العالم برّاً، وأنّ وزير خارجيتنا ممنوع عليه فتح الحوار مع سوريا لنعبر الى العراق والاردن والخليج العربي ولحل مشكلتنا من النازحين؟! يجب ان نرفع الصوت بأن ليس لدينا وَفر اقتصادي يسمح لنا بدفع معاشات تقاعدية تساوي الأجر الفعلي، وأنّ المعاش التقاعدي يدوم للزوجة وحتى البنت العزباء، كما أننا ندفع لأستاذ التعليم الرسمي مبالغ ليدفعها مقابل تعليم ابنائه في المدارس الخاصة، وأننا بعد سنوات من التفاوض لم نحصل على اي إصلاح!

وألا ننكر تأثير الرسوم على العقارات، بلدية ومالية ورسم تسجيل … وهي أصبحت الآن من الاغلى في العالم. نشدّد على أهمية لجان التخمين وكيف علينا ان ندفع من أجل بناء مصنع 10 آلاف متر نحو 50 الف دولار لنقابة المهندسين، وندفع خوات أسبوعية ونحن في طور البناء… وكيف أنه ممنوع علينا استيراد الاسمنت لبناء مصنعنا، وممنوع علينا استيراد كابلات الكهرباء من أجل مدّ الكهرباء في المصنع وعلينا شراؤها من محتكرين.

ونكون صريحين مع أنفسنا بأنّ كل معاملة تتصل بالدولة بشكل او بآخر، مهما كانت، لا تمر إلّا من خلال الرشاوى، وكيف أنّ شركة صغيرة الحجم بالنسبة الى أحجام الشركات في العالم وتعتبر في لبنان من كبار المكلفين إذا كان حجم اعمالها 10 ملايين دولار سنوياً، تنفق من هذا المبلغ اكثر من 10 في المئة رشاوى وفساد وأسعار مرتفعة بسبب الاحتكارات.

وأنّ لبنان قد يكون البلد الوحيد في العالم الذي لا توجد فيه محرقة للنفايات الطبية متوافرة للمستشفيات غير المجهزة، والاهم أنّ الوزارة المسؤولة لا توضح للمستثمر الشروط التقنية! وعليك ان تقوم بدراسة أثر بيئي من دون ان تعرف ما هي التقنيات المسموحة وحدودها فيأتيك الجواب: «إتّكل على الله».

أخيراً أقول، إنه لا ضرر أبداً في الاستعانة بدراسات من ايّ جهة كانت، ودراسة من شركة أجنبية ربما تفرض نفسها على بعض السياسيين! «لأنّ الفرنجي برنجي»، ولكن كل هذه الدراسات تبقينا في دوّامة متواصلة إذا لم يتوقف الفساد والرشاوى والاحتكارات والسرقات، والأهمّ اعتماد الوضوح والشفافية المطلقة في تصوير حالنا وإدراج التفاصيل المملّة التي تَشلّ الاقتصاد وتعرقل تطوير بيئة الاعمال في لبنان، علينا إيجاد حلول اولاً لكل ما ذكرناه وهي بعض الامثلة والباقي أعظم… فلنصلح التفاصيل في المايكرو، امّا بالنسبة الى الماكرو فلنطلب من كارلوس غصن دراسة على ألّا تكون أكثر من 5 صفحات يشرح لنا من خلالها قصة نجاحه في «رينو» و«نيسان»، مع الأخذ في الاعتبار أنّ حجم «رينو» و»نيسان» أكبر من حجم اقتصاد لبنان لنطبّقها في بلدنا وبلده لبنان، وكان الله يحبّ المحسنين.